جريدة روزاليوسف
أحمد الرومى
«الشهادة» من «الثانوية» إلى «التكفيرية»
لم أكن متفوقًا فى الثانوية العامة، تخرجت فيها وهناك خلاف عميق بينى وبين المذاكرة، كانت مجابهتى لها قوية، فدماغى لم يقبل الرضوخ والانصياع لمواد أعلم يقينا أنها لن تفيدنى فى حياتى العملية. دماغى العنيد يرى فى الصم والحفظ إهانة وامتهانا لمفهوم أن تكون إنسانا لك معنى فى الحياة.
تلك الأفكار تدور فى رأسى كل عام بالتزامن مع إعلان نتائج الثانوية العامة، أتأمل احتفاء الإعلام بالمتفوقين، أرى النصر فى عيون هؤلاء الطلاب الغلابة، والحزن يعتصر قلوب نظرائهم، الذين لم يستطيعوا حصد الدرجات الضخمة، للالتحاق بكلية محترمة ترضى معاناتهم فى المذاكرة، وتبدد متاعب أسرهم فى الدراسة، تلك الأسرة التى اجتزأت من قوتها لتوفير فلوس الدروس الخصوصية والكتب والملازم اللازمة لهذه «الخناقة العظمى».
أجواء أراها عبثية بامتياز، ولابد أن تنسف من جذورها.
إن خطورة التعليم فى مصر ليس فقط فى أنه لا علاقة له بفكرة التعليم (التى يطبقها العالم ويطورها) بل تكمن الخطورة فى أن النظام التعليمى يدمر شخصية الطلاب ـ الذين سوف يقودون مستقبل هذا البلد عما قريب ـ إنها عملية غسل دماغ خطرة لصالح الـ«ولا حاجة»، تحصد البلد متاعبها وأوجاعها بعد ذلك.
لقد انخرط المجتمع أخيرا فى طرح تساؤل مهم: «لماذا يُقْدِم أبناؤنا على الانضمام إلى جماعات تكفيرية وتنفيذ عمليات انتحارية ضد الآمنين؟».
هذا السؤال لم تتنبه له الدولة بما يكفى، ولم تشمله بالبحث والدرس من أجل الوصول لإجابة تساعدها على محاصرة التطرف وإيقاف تمدده.
لقد فكرت فى هذا السؤال مليا، وأوصلنى اجتهادى إلى أن نظامنا التعليمى هو مَن يصنع فى رؤوس أبنائنا «فرشة» جيدة للتطرف، يخرّج أدمغة «نصف مشطوفة». تمامًا كالبطاطس «نصف مقلية» غلوة وتستوى!
فإن تكون طالبًا متفوقًا فى نظامنا التعليمى البائس، معناه أنّ دماغك فى خطر، لقد تدرّب رأسك على الانسياق خلف أشياء لا تؤمن بها ولا تألفها، تربى على جوهر «السمع والطاعة»، «مش مهم تفهم، المهم تجيب مجموع»، احفظ بكل طاقتك وقوتك من أجل التفوق ونيل «الشهادة الكبيرة»!
و«الشهادة الكبيرة» هى الجائزة الكبرى التى يلعب عليها كلا الطرفين (النظام التعليمى، والجماعات المتطرفة) كلٌ منهما يدفع مَن يقع تحت سيطرته إلى «الشهادة الكبيرة» بتقويض همة التفكير. التكفيرى يقول: «لا تجادل ولا تناقش يا اخ علي!» والشهادة الكبيرة «حور العين». والتعليم يقول: «التزم بالكتاب المدرسى يا ولاه!» والشهادة الكبيرة «تذكرة عبورك لكليات القمة».
إن غالبية المتطرفين فى مصر كانوا من الحاصلين على درجات علمية عالية، انظروا إلى قيادات جماعة الإخوان الإرهابية، أغلبهم دكاترة فى الجامعات المصرية. كذلك التكفيريون الذين نفذوا عمليات انتحارية فى مصر غالبيتهم كانوا طلابا متفوقين دراسيا، ومنهم من كان فى كليات القمة، بداية من حسن رأفت بشندى، طالب الهندسة، منفذ تفجير الأزهر سنة 2005، وانتهاء بمحمود شفيق محمد مصطفى، طالب كلية العلوم، الذى نفذ تفجير الكنيسة البطرسية 2016.
النظام التعليمى الحالى يدرب دماغ الشباب على «التطرف العفوى» وخطورة هذا النوع من التطرف يكمن فى كونه يشكل أساسا قويا للتطرف المنظم والممنهج، وهو ما يجعل الشباب فريسة سهلة فى يد الجماعات التكفيرية، يستقطبونهم ببساطة، فدماغ شبابنا يرتاح مع مَن يملؤها بمحتوى محدد؛ دون أن يثقل عليهم بالتفكير (هم أصلا لم يدربوا على التفكير) فتجدهم يتحولون سريعًا من أناس عاديين يعيشون بيننا، إلى متطرفين يحترفون القتل والشر.
إذا نظام التعليم الذى تتمسك به الدولة ـ طيلة عصور قديمة مضت وحتى الان ـ لابد أن يتغير كليا لأضراره البالغة، فالتفوق فيه ـ فى رأيى ـ لا يدعو إلى الفرح والانبساط. بقدر ما يثير بداخلى المخاوف، كيف نفرح بالنجاح فى منظومة تعليمية لا تحفز رؤوس شباب على التفكير، بل تعزز نشاطها فى منطقة الـ«ولا حاجة» الخطرة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف