محمد الرميحى
تداعيات أزمة قطر على الإقليم الخليجي
من أعرفهم من المتابعين للأزمة المحتدمة بين دولة قطر، وبين الدول الأربع الأخرى، مصر، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات، مملكة البحرين، ينقسمون إلى قسمين تقريبا. الأول هو القسم (المًهون) للأزمة، وأنها لا أكثر سحابة صيف، ما تلبث أن تنقشع دون امطار وسيول. والقسم الثاني (المُهول) الذي يرى أن الأزمة وراءها ما وراءها، وأن المنطقة الخليجية، بل والعربية، لن تكون كما هي بعد انتهاء الأزمة، كما كانت قبل اندلاعها.
بين هذا الموقف وذك تتعدد الرؤى، شخصيا أرى أن الأمر يقع بين هذا وذاك وفيه من الخطورة ما يلزم قرع جرس الإنذار، ربما ليس بذلك التهويل الضخم، لكن ليس بالتهوين أيضا. فالأزمة جدية، يجب أن نتبصر في مكوناتها، ونتفاعل معها بما تستحق من اعتبار وجدية ومسئولية أيضا.
في البداية في الفضاء السياسي يجب أن نتوقع غير المتوقع، تبدأ أزمة ما صغيرة، يظن الداخلون فيها أنه يمكن (احتواء) نتائجها، ما تلبث أن تكبر ككرة الثلج المنحدرة من جبل عال، كلما تدحرجت كلما كبرت. مثالي نابع كوني من الذين مروا بالتجربة المريرة. وهي الاحتلال العراقي للكويت، مقدماتها ونتائجها لقد عرفنا مباشرة أن النار من مستصغر الشرر، لقد كانت هناك وجهات نظر وقتها (في النصف الأول من عام 1990) أن ما يقوم به النظام العراقي هو تهويش، واحتمال أن يقدم على تحريك جيشه ليحتل بلدا عربيا أخر في مقام المستحيل او قريبا منه، وان الأزمة لا أكثر من (سحابة صيف) مرة أخرى. لكننا نعلم اليوم كم دفع الكويتيون والعراقيون والعرب من أثمان باهظة لتلك المغامرة، ومازالت تسدد فواتيرها الضخمة في المال والرجال والدماء و الأوطان.
ليس في تفكيري أن المثالين متطابقان كل التطابق، لكن ما أردت الإشارة إليه، هو تلك الميكانيزمات المكونة للازمتين، أي أن الاحتمالات مفتوحة على كل الاحتمالات، أقربها أن تمتد الأزمة وتتطور ويدخل فيها لاعبون جدد، لهم مصالح مختلفة وربما متناقضة عن مصالح كل الأطراف الرئيسية في الأزمة. والدرس الثاني ناتج عن التجربة الكويتية، والقائل إن تشرذم الصف الداخلي يُغري المتربص باغتنام الفرص، لقد كان شتاء وصيف الكويت في عام 1990. قد أفرز اختلافا واسعا بين القوى السياسية الداخلية، وبدا للنظام العراقي أن (الصف الكويتي) منقسم على نفسه. بالتالي فإن ابتلاع الكويت أصبح أمرا سهلا ويسيرا.
هذا الدرس بالتأكيد لا يمكن أن يتكرر حرفيا، لكن انقسام (البيت الخليجي) إن طال لابد أنه سوف يُسيل لعاب قوى إقليمية مختلفة، إلى محاولة الولوج بين الصفوف لدول الخليج وتحقيق المكاسب التي يرجونها. الأمر واضح اليوم بالنسبة لتركيا، التي تعرف أن الصف الخليجي لا يمكن أن يسمح بتقسيم الصفوف، لكن في مرحلة وفي غفلة، قفز النظام التركي على الأزمة، وهو أصلا يعاني عوارا داخليا ينزف النظام التركي، سواء في ملف الأكراد، والحرب في العراق وسوريا، أو حتى في تشرذم الصف الداخلي، الذي يضع عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك في السجون، ويقيم في الحكم تحت أكثر من سنة من قوانين الطوارئ، فهو نظام (مأزوم في داخله) يرغب بأن يلعب دورا في ساحة بعيدة عنه، لصرف الأنظار والتكسب السياسي والمادي لا غير.
كما أن الإيرانيين تأهبوا بالتظاهر بتقديم المساعدة لقطر، ويمنون أنفسهم أن تتعقد الأزمة ويزداد الصف شقا والأنفس نفورا، لأنها فرصة تاريخية لتمدد النفوذ الإيراني. إذن المقارنة بين (الأزمة) القائمة، والنكبة التي أصابت الصف العربي باحتلال الكويت، هي مقارنة مستحقة، لا لأنها متماثلة في التفاصيل، بل لأنها متشابهة في الميكانيزمات المؤدية لكلاهما، معنى أن الدروس يمكن أن تستشف ولو بأشكال مخالفة. العالم يأخذ الأزمة القطرية مع الدول الأربع على محمل الجد، فزيارة وزير خارجية الولايات المتحدة المكوكية، ووزير خارجية بريطانيا، ووزير خارجية فرنسا، وزير خارجية ألمانيا، جميعهم شدوا الرحال إلى المنطقة، وتنقلوا بين عواصمها من اجل فهم أفضل لما يجري، وحث الأطراف على احتواء الأزمة، لأن منطقة الخليج مكان حيوي للعالم، هي شريان العالم الذي يغذي قلبه الصناعي بالطاقة، وهو المنطقة الجغرافية في الشرق العربي التي لم تقع في الفوضى وهي الممر التجاري الحيوي، وتقع على مرمى حجر من بؤر عددية للازمات، وأمام كل ذلك لن يُفرط احد في هذا العالم في ترك الأمور تتدهور إلى أن تصل لما سماه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد (ما لا يُحمد عقباه).
منطقة الخليج نسيجها الاجتماعي متقارب، ولحمة الأسر والعائلات فيها ممتدة في جميع عواصمها وقراها، كما أنها تلتقي اجتماعيا بحبل لا انقطاع له، لأن تاريخها واحد، له في الصحراء نسب، وفي البحر سبب، في استمرار تصدير الطاقة للعالم ارب.
أمام هذا الواقع فإن العقلاء كانوا ومازالوا يدعون ويأملون أن تحل هذه الأزمة في (البيت الخليجي) بالتعاون مع مصر. فلا الغرب بكل مكوناته في هذا المنعطف التاريخي بمستعد للتدخل أكثر من التدخل الدبلوماسي، والأكثر استعدادا للتدخل المباشر هي الأطراف الإقليمية ( التركية\ الإيرانية) وتدخلها ليس حميدا. إلا أن النظر للمستقبل يأخذنا إلى القول إن هذه الأزمة سوف تحل لان تفاقمها مضر. وهي مثل أي أزمة، تتناثر حولها الإشاعات السوداء، وتتناولها الأقلام بمشهيات وتمنيات وافتراضات وتخرصات، كثير منها تنقصه المعرفة وبعضه ينفخ فيه عاملا الجهل والتحريض.
من التحوط الفطن التفرقة بين اليوم القصير وغضب اللحظة، وبين المصالح طويلة المدى واليوم الطويل. في اليوم الطويل حلم أبناء الخليج أن تتطور منظومة مجلس التعاون إلى مكان أفضل في (الاندماج) التدريجي، والتشبيك المصلحي، حفظا لها وسندا لامتها العربية، وأيضا في مشاركة داخلية تنبئ عن مصالح مرسلة لرغبات الناس العاديين في الخليج، الذين يرغبون بالاستقرار، وبناء مؤسسات حديثةـ علاوة على ما تم إنجازه في المنظومة وهو ليس بقليل، وتطويرا لإمكانات مشتركة هائلة، أن ضُمت لبعضها، خلقت نموا مستداما للداخل، ومنعة أمام الخارج.
ولعل هذه الأزمة تفتح مكانا لتلك الفرصة، في إكمال المؤسسات وإنضاجها، لأنها القادرة في الزمن الذي نعيش أن تعظم الايجابيات وتقلل ما أمكن من السلبيات المعتمدة على وجهة نظر فردية، مهما اجتهدت تبقى فردية، قد تصيب مرة، وتخطئ مرات، ونحن في عصر أثمان الأخطاء أصبحت باهظة على الشعوب ولننظر حولنا.