الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
العصر القبطى (22) .. حضارة الروح
الحضارات العظيمة لا يقضي عليها من الخارج بل تسقط بعد أن تتهاوي أعمدتها في الداخل. تلك الحقيقة يؤكدها تاريخ روما، فبعد وفاة الإمبراطور ثيؤدوسيوس 395م قد ملك علي عرش روما ولداه وقد قسم الإمبراطورية بينهما في حياته وهما لا يزالان أطفالاً، فأعطي الغرب وعاصمته روما لهونوريوس وكان عنده إحدي عشرة سنة، والشرق وعاصمته القسطنطينية لأركاديوس وكان عنده ثمانى عشرة سنة.

وكان الاثنان ضعيفي الشخصية فأسلما أعمال الدولة إلي آخرين. فكان استيلكو هو المسيطر علي الغرب، وكان لا يبالي بشيء غير مصلحته الشخصية فتعرضت روما إلي هجمات الغزاة وبدأ الضعف يظهر في أركان الإمبراطورية. وبدأ زمن الانحدار نتيجة الاختيار الخطأ لمن يجلس علي العرش. فقد كان هونوريوس غريب الأطوار حتي إن بعض المؤرخين يقولون إن زوجته ماتت عذراء.

ولم يختلف الأمر كثيراً في الشرق فقد سلم أركاديوس الحكم لوزيره روفيموس وكان مرتشياً، فانتشر الفساد في أركان الحكم. وبالرغم من طيبة أركاديوس إلا أنه كان سبباً في ضعف الإمبراطورية فقد تحكمت فيه زوجته أوزوكسيا حتي إنها جعلته يصدر أمراً بنفي القديس يوحنا ذهبي الفم لأنه أزال تمثالاً لها أمام الكنيسة وكانت تقيم حفلات ماجنة لتمجيدها عند هذا التمثال.

ومات أركاديوس عام 408م وهو شابً عمره واحد وثلاثون عاماً وكانت وفاته غريبة إذ كان بجانب القصر شجرة يقال إنه قد علق عليها شهداء للمسيحية فبني كنيسة بجوار الشجرة باسم الشهداء. ولما انتهي بناؤها دخل ليري الكنيسة فمات بداخلها. فتصارع أهل المدينة ليشهدوا جنازته داخل الكنيسة وتراكموا علي أسطح القصر فسقط بهم، ولكن لم ينل أحد منهم بأذي فصاح الجميع أن هذا بشفاعة هذا الملك القديس. وهذه دائماً سلوكيات الشعوب السطحية التي نراها في كل زمان وكل مكان حين يدب الجهل في العقول وتضعف الروح في الداخل تتحكم تلك الأمور في سلوكيات الشعب. إلا أن أركاديوس كان فعلاً إنساناً طيباً فلم يقتل أحدا طيلة حكمه ولما سألوه لماذا لم يصدر أمراً بقتل أحدا قال: «لو استطعت أن أحيي الموتي لفعلت فكيف أقتل أحداً».

وقد أحب مصر كأبيه فبني سورا حول حصن بابليون ليضم الكنائس التي بداخله مع الحصن. ويقول المؤرخون إن الحصن كان يحوي كنائس كثيرة في ذلك الحين مما يؤكد بناء كنائس الحصن قبل القرن الخامس. وقد تأثر جداً أركاديوس بشجرة مريم التي في المطرية وكانت قد نالت شهرة كبيرة في هذا الوقت حتي إنه أصدر أمراً باعتبار كل أشجار البلسم في مصر مقدسة، وأمر بعدم قطع أشجار البلسم وتغريم كل من يبيع أو يشتري شجرة بلسم بخمس قطع ذهبية.

واشتهرت مصر في ذلك الوقت بأنها أرض القديسين فبجانب مباركة العائلة المقدسة لها وقوة الفكر والتعليم المسيحي التي تقوده مدرسة الإسكندرية للعالم كله؛ صارت أديرة مصر وقديسوها بمثابة الحج لكل من يبحث عن الحق ويطلب رؤية الحياة المسيحية الحقيقية أو من يريد أن يتعلم أصول الحياة الروحية. حتي إن كثيرا من فلاسفة العالم وسكان القصور الكبيرة تركوا حياتهم وأتوا إلي مصر ليتعلموا الحياة من جديد تاركين حياة الرفاهية متتلمذين علي يد رهبان مصر. وكان من ضمن هؤلاء معلم أولاد الملوك وهو القديس أرسانيوس، وكان من أشراف روما وأحد فلاسفتها. وقد عهد الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير إليه بتربية ابنيه. وقد لاحظ أرسانيوس علي أركاديوس إهمالاً في الدراسة والتعليم فكان يعاقبه كثيراً علي هذا الإهمال. فلما جلس علي العرش وهو لا يزال صغيراً بدأ الانتقام منه. فترك القصر وجاء إلي مصر وكانت سيرة القديس أنطونيوس تداعب خيال كل الباحثين عن الحقيقة فذهب إلي أديرة مصر وصار راهباً بل أحد القديسين المشهورين في الرهبنة المصرية.

كما جاء إلي مصر أيضاً مؤرخون كثيرون أرادوا أن يسجلوا هذا التاريخ لينشروه للعالم كله. فجاء جيروم وهو يوجوسلافي الأصل، ويرجع له الفضل في ترجمة الكتاب المقدس إلي اللاتينية مما جعله من أشهر رجال عصره.

وقد جاء أيضاً إلي مصر من جنوب فرنسا يوحنا كاسيان مدفوعاً برغبة روحية للحياة وسط قديسي مصر ورهبانها فقضي عشر سنوات متنقلاً بين أديرة الصعيد ووادي النطرون، وكتب عنهم مسجلاً حواراته وأحاديثه مع عمالقة الروح المصريين. ولما رجع إلي بلاده أسس ديرين أحدهما باسم القديس بقطر المصري. وقال في كتابه: «إنني رأيت أشبه بالحياة السمائية علي الأرض، فقد كان هناك عشرون ألف راهب لا ينقطعون عن التسبيح ليلاً ونهاراً، ولا يمر غريب أو فقير لديهم إلا ويغمرونه بكرمهم ومحبتهم». وكان لكتاباته الأثر الكبير في انتشار الرهبنة بالغرب وجعل مصر هي منارة الروح في العالم كله.

كما جاء أيضاً من سوريا بيلاديوس وذهب إلي الإسكندرية وتقابل مع إيسيذيروس الطبيب المشرف علي مستشفي تابع للكنيسة ولما وجد فيه الاشتياق الروحي أشار عليه للذهاب إلي أديرة وادي النطرون ليتعلم أصول الحياة الروحية. فذهب هناك وقضي ثلاث سنين متنقلاً بين الأديرة متتلمذاً علي يد قديسيها. ثم رجع وكتب كتاباً عن تاريخ آباء الصحاري المصرية.

وفي هذا العصر أيضاً بدأت ملامح الأدب القبطي تكتمل من خلال تجميع وكتابة سير الشهداء من القرن الأول وقراءتها في الطقس الكنسي بما يسمي »السنكسار« وهي كلمة قبطية تعني سير القديسين والشهداء. كما بدأت رسائل وعظات آباء البرية تنتشر في كل العالم مثل عظات الأنبا أنطونيوس والقديس مقار والقديس أنبا شنودة رئيس المتوحدين الذي يعتبر عميد الأدب القبطي نظراً لغزارة إنتاجه وتنوعه.

عزيزي القارئ.. إن ما نقدمه اليوم يجب أن يكون سبب فخر لكل مصري، أن تكون بلادنا هي منارة الروح وقبلة الفكر المسيحي. وكما علمنا العالم كله وقت أجدادنا الفراعنة فجر الضمير، علمناه أيضاً في المسيحية فجر الروح الذي أشرق لكل العالم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف