نبيل عمر
عقلة «الصباع» والخروج المستحيل من الأزمة
هذه أسئلة افتتاحية بمنزلة تذكرة عبور إلى عقول حكام قطر والأفكار المسيطرة عليهم وتتحكم في تصرفاتهم الإقليمية والدولية: هل تختلف قطر الدولة المشاغبة سياسيا عن قطر الدولة الساعية رياضيا إلى دور مهم في العالم؟
هل يختلف احتضانها لتنظيمات إرهابية وتمويلها ودعم عنفها إعلاميا عن احتضانها رياضيين أجانب وتجنيسهم بإغراءات مالية كثيفة ليلعبوا باسمها في المنافسات الرياضية ويفوزوا بألقاب لا تمثلها؟
هل دخولها في السباق على تنظيم «كأس العالم» مسألة منطقية لمجرد قدرتها على شراء أصوات تؤيدها في ذلك، وكأس العالم هو أرفع بطولة كروية، بينما قطر بلا قيمة في اللعبة ولا يصلح مناخها للعب صيفا ولا تملك أي مزارات سياحية أو ترفيهية لجمهور قادم من أربعة أرجاء المعمورة؟
إجابات هذه الإسئلة تشى بأسباب الرد القطري العاجز عن تلبية مطالب الدول العربية المقاطعة لها، وأيضا هي التي ترسم مستقبل الأزمة القطرية تحت حكم أميرها الحالي وعائلته..وتدفعهم للسير في طريق الغواية إلى منتهاه، فهم يدركون تماما أن وزن قطر النسبي لا يؤهلها لأي دور رياضي أو سياسي، فلا عدد سكان ولا مساحة جغرافية ولا ثقل حضاري ولا مكانة معنوية، يمنحها أي فرصة طبيعية، لتصبح محل اهتمام في منطقتها أو عالمها، صحيح أن الثروة الناتجة من الغاز قوة، تُسهل لأصحابها شراء قدر من النفوذ، لكنه نفوذ مرهون بقدر ما ينفقون، مثل أي غنى حرب جاهل فاحش الثراء يحجز لنفسه طاولة في فندق يؤمه الارستقراطيون والمشاهير ليقال إنه منهم.
ويبدو أن الدور البارز الذي تصوره حكام قطر لأنفسهم ارتبط في أذهانهم بأن تكون بلادهم «دولة مشاغبة»، طرفا في صراعات لا تخصها، وتتخذ مواقف صارخة في قضايا داخلية لدول جوار أو بعيدة عنها، لأن صناعة الشغب تثير الاهتمام أكثر من صناعة الاستقرار.
إذن نحن نتحدث عن قزم أو «عقلة صباع»، قرر أن يلعب دور جوليات الجبار، مثير الفتن والقلاقل في منطقة معقدة ملتهبة متشابكة المصالح..فتتسلط عليه الأضواء وتبحث عن موقعه ولا تكف وسائل الإعلام عن مطاردته.. وتُفتح له أبواب عواصم كبرى تنسجم أهدافها مع الدور القطري.لكن هذا الدور الخطير له مزالق، فقد يورطها في عداوات وصدامات لا تقدر عليها، فهي تكاد تكون عارية من إمكانات عسكرية توفر لها الحد الأدني للأمان..ولا سبيل أمامها سوى أن تلعب هذا الدور في كنف »قوى عظمى«، قوى يهمها أن تجند وكيلا من داخل المنطقة يعمل على زرع القلاقل والفتن والانقسامات بنعومة وتحت شعارات قومية ودينية..
ولو ربطنا بين وجود قاعدة «العديد» الأمريكية في غرب الدوحة والدور الجديد لقطر من منتصف تسعينيات القرن العشرين سنجد تلازما مدهشا بينهما، وليس شاذا أن تنطلق قناة الجزيرة نفسها في عام 1996، أي بعد تأسيس القاعدة الأمريكية بخمس سنوات فقط..لتستكمل بها قطر دور الدولة المشاغبة إعلاميا.
ولا يمكن أن نهمل علاقات قطر القوية وروابطها الخفية والعلنية مع إسرائيل منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وإسرائيل لها جماعات ضغط في مراكز صناعة القرار الأمريكي، جماعات مؤثرة تضمن للمشاغب دعما إضافيا إذا ما جد جديد، وكان حمد بن جاسم وزير خارجية قطر السابق يُستقبل كالأبطال القوميين في إيباك أكبر جماعة ضغط يهودية في الولايات المتحدة كلما زار واشنطن..وهذه الاستقبالات مسجلة في وثائق بالصوت والصورة.
وتحولت قطر إلى عراب تقسيم المنطقة والإبقاء عليها في حالة اضطراب مزمن، وتفكك يصعب تصحيحه، خاصة في دول الطوق مصر وسوريا ولبنان وقطاع غزة، لضمان أن تنعم دولة إسرائيل بأكبر قدر من الاستقرار والاطمئنان، يتيح لها نموا اقتصاديا وعسكريا مطردا، فلا يستطيع العرب مجتمعين أن يمثلوا تهديدا لها في أي وقت في المستقبل.
وأرجوكم لا تنزلقوا إلى فخ التناقضات بين إسرائيل وإيران، فهذه تناقضات كلامية مصطنعة لا أساس لها إلا في حرب إعلامية من باب المزايدات لا أكثر ولا أقل.
هذه الأسباب والعلاقات هي التي تستند إليها قطر في ردها الجاف على مطالب الدول العربية المقاطعة لها، وهي علاقات ممتدة لها تاريخ واسرار وحكايات ومصالح مشتركة، لا تظن قطر أن الولايات المتحدة قادرة على التخلي عنها بسهولة، مهما بدت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قاسية وعنيفة ضد الدول التي تمول الإرهاب وتساند منظماته، وهو ما كشفته جولة زير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في المنطقة العربية أخيرا، وأظهرت تأرجح الولايات المتحدة بين شخصيتي «دكتور جيكل ومستر هايد» في الأزمة العربية القطرية، فالرجل كان حريصا على «تجميد» الموقف المأزوم على وضعه الحالي، دون أي تصعيد من مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وتحدث عن وجوب جلوس الأطراف معا للتباحث عن حل توافقي، فكان أقرب إلى الموقف القطري الضار سياسيا ودبلوماسيا بالدول العربية التي قطعت علاقاتها بقطر.
هنا يبدو التناقض واضحا، بين ما يعلنه ترامب وما تفاوض عليه وزير خارجيته، لكنه تناقض متوقع وليس مستبعدا، نابع من خلافات في الرؤى بين المؤسسات الأمريكية: البيت الأبيض، وزارة الخارجية ، البنتاجون، المخابرات المركزية، وإذا كان الرئيس دونالد ترامب له أفكار مختلفة عن رؤساء سابقين في إدارة العلاقات والصراعات في الشرق الأوسط، فهو لا يستطيع فرضها بسهولة، فالولايات المتحدة دولة عميقة لها استراتيجيات وليست جمهورية موز..خاصة أن تلك المؤسسات نجحت في تنفيذ سياساتها بنجاح لأكثر من أربعين سنة دون خسائر جانبية مؤثرة..وإن أصابها الفشل في تمكين جماعة الإخوان من حكم المنطقة.
باختصار لن نكون على صواب لو تصورنا أن «عُزلة قطر» بنظامها الحالي سوف تدفعها للتفكير والعودة إلى جادة الطريق داخل محيطها العربي ولو بعد حين.
يبقى السؤال الأهم: ماذا بعد؟
الإجابة صعبة في ظل التناقض الأمريكي، لكن الرسالة العربية القادمة لن تخرج عن معنى وحيد «أن الأمير تميم لم يعد مرغوبا فيه»، وعلى العائلات الحاكمة في قطر أن تفكر فى حل، إذا أرادت أن تكسر عزلتها الصعبة الحالية.