لم أكن أتصور يوما أكتب فيه عن عنصرية لبنانية يُحرض عليها البعض علنا وبدون خجل، ويمارسها قطاع كبير بأريحية وطيب نفس وكأنها وصفة للتفوق والعلو والتخلص من عُقد الماضى القريب. العنصرية اللبنانية حسب المتداول فى تعليقات بعض كبار السياسيين والمحللين ورؤساء بلديات فى مناطق مختلفة شمالا وجنوبا، والأدهى والأمر فى تصريحات لرجال دين كبار، موجهة بالأساس ضد اللاجئين السوريين الذين اضطرتهم الحرب الملعونة فى بلادهم إلى الهجرة واللجوء إلى بلدان شقيقة أو صديقة، أو ظنوا أنها كذلك، وإذا بها تلفظهم وتعاملهم وكأنهم سبب كل المشكلات التى تثور فيها، حتى ولو كانت جذور تلك المشكلات تمتد إلى عشرات السنين الماضية، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بهؤلاء اللاجئين المؤقتين.
بعض السياسيين الذين يحرضون على اللاجئين السوريين يعيدون المخاوف نفسها التى سبق أن قيلت فى حق اللاجئين الفلسطينيين قبل أربعة عقود؛ مخاوف أن يبقى هؤلاء ويحصلوا على الجنسية بحكم طول الإقامة ومن ثم تتغير الأوزان السكانية بين مسيحيين ومسلمين. وإن كان الخوف من تغييرات دراماتيكية على التوازن السكانى والدينى يتبعها نتائج سياسية غير مريحة أمرا مشروعا، فهو لا يبرر أبدا تلك الممارسات العنصرية البغيضة، وما يرافقها من سخرية وحملات تحريض لا تليق ببلد عُرف عنه قبوله التعدد بأشكاله المختلفة الدينية والعرقية، وكان يُضرب به المثل فى التعايش بين المختلفين.
بالقطع ليس كل اللبنانيين يحرضون على تلك الممارسات العنصرية التى تأججت فى الأعوام الأربعة الماضية، فهناك جمهور مُعتبر من صحفيين وسياسيين وكتاب وأكاديميين وفنانين يرفض الأمر برمته، كما دلل عليه بيان وقعه 260 لبنانيا من نخبة البلد، اعتبروا الحملة الرائجة ضد السوريين موقفا لا أخلاقيا ولا إنسانيا أن يتكالب المرء على إنسان ضعيف لم يعد يملك وطنا أو هوية أو مصدر رزق، وتعامله وكأنه شىء مزرى يجب التخلص منه فورا وبأحط الطرق والوسائل. لكن الأصوات الرافضة لتلك الممارسات العنصرية وإن كشفت موروثا حضاريا دفينا فى بنية المجتمع اللبنانى، وهناك من يدافع عنه بإخلاص، فالواضح أن القوى والتيارات المنفلتة هى أعلى صوتا وأكثر ضجيجا وتأثيرا على المجتمع اللبنانى، وهى الأكثر تنظيما للحملات الإعلامية والسياسية التحريضية على السوريين، والتى تشارك فيها صحف وقنوات فضائية بكل همة ونشاط، ناهيك عن مجموعات الدردشة الاليكترونية والتى تتفنن فى الإساءة الى اللاجئين وتبيح دمهم وعرضهم دون خوف من محاسبة. تلك القوى تجمع بين تيارات وقوى وتنظيمات مسيحية وأخرى سُنية تضع التهجم على اللاجئين فى سياق الانتقام التاريخى من سوريا مضمونا، دون التفرقة بين النظام الظالم والناس المظلومين المُكرهين، فالكل لدى تلك القوى الاستعلائية سواء يستحق الانتقام. ولتخفيف الوطأة المعنوية تغلف تلك القوى موقفها الرافض للاجئين السوريين بأسباب العيش وقلة الموارد وضعف الامكانات، وقلة حيلة الدولة اللبنانية فى أن توفر بعض لقيمات لما يقرب من 1.5 مليون نازح أو لاجئ سورى.
وتحت مبرر مناداة الدولة بأن تعمل على إعادة هؤلاء السوريين إلى بلدهم تتعدد التصريحات من أعلى المراجع الدينية والسياسية بأن هؤلاء اللاجئين ينتزعون لقمة العيش من فم اللبنانى ويرمونه فى حالة الفقر والحرمان ويقحمون الأجيال اللبنانية الطالعة إلى الهجرة، كما جاء فى كلمة البطريرك المارونى بشارة الراعى فى قداس حضره الرئيس ميشال عون وزوجته. وهو ما فهمه العامة بأن عليهم أن يسرعوا الخطى فى شأن طرد اللاجئين من أرض لبنان، ولتكن البداية المزيد من السخرية والإهانة والشتم، كما عبرت عن ذلك بعض لافتات ظهرت فى قرى ومناطق مختلفة تهدد اللاجئين بقطع يدهم إن قطعوا أرزاق اللبنانيين.
اعتبار السورى اللاجئ سببا لندرة العمل أمام اللبنانى، صاحب البلد، ليست الحُجة الوحيدة التى تُقال، فهناك ذريعة أن هؤلاء إرهابيون أو بهم بعض إرهابيين، كهؤلاء الخمسة الذين قال الجيش إنهم إرهابيون فجروا أنفسهم فى أحد المخيمات فى اثناء قيام الجيش باقتحامها فى منطقة عرسال كما حدث فى 30 يونيو الماضى، وتلاها اعتقال 400 لاجئ سورى، مات عدد منهم فى أثناء التحقيقات وتم دفنه دون تشريح، وقيل إن عوامل صحية هى السبب، بينما أشار حقوقيون لبنانيون أن التعذيب هو السبب. وفى حال كهذا ولدرء الشبهات ولإعلاء قيمة الدولة والقانون كان يُفترض التحقيق الجنائى والطبى، ولكنه لم يحدث خشية أن يُتهم الجيش بسوء. وهنا رأى بعض اللبنانيين متأثرين بمناخ التحريض العنصرى أن ينالوا بأنفسهم من السوريين، كما أظهر مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع، وأظهر أربعة لبنانيين ذوى أجسام ممتلئة يضربون بقسوة وعنف بالأيدى والأرجل فتى سوريا صغير الحجم لا يزيد عمره على 12 عاما، أعملوا فيه إهانة وضربا سبا وشتما بلا هوادة، وانتهى الأمر بالانتصار الحاسم بأن أجبروا الفتى على تحية الجيش اللبنانى وسب سوريا بكل من فيها وما عليها. قسوة المقطع وما أثاره من جدل دفع الأمن اللبنانى لسرعة ضبط الجناة، لعل ذلك يوقف زحف العنصرية والاستعلاء على بسطاء الناس، ويُعيد للبنان بعض ما عُرف عنه من لطف فى معاملة الغير.
اعتقال العشرات أو المئات ليس العقاب الجماعى الوحيد، فقد مر اللاجئون السوريون بتجربة مريرة من قبل وما زال بعضها مستمرا. ومن أشكال ذلك العقاب الجماعى أن يُمنع السوريون من التحرك ليلا ما بين الساعة التاسعة مساء إلى السادسة صباحا، كما أقرت بذلك وطبقته بلديات كثيرة فى ربوع لبنان، متذرعة بأن هؤلاء إرهابيون محتملون وأنه يجب أن تُقيد حركتهم، وأن يكونوا دائما تحت المراقبة. ورغم أن تلك الإجراءات لا يسندها قانون ولا تشريع، لكنها مورست دون اعتراض، اللهم بعض الأصوات الناقدة التى ذهبت أدراج الرياح. وفى إحدى القرى فى المتن الشمالى كان يتم إجبار السوريين على العمل يوما إضافيا دون أجر لتنظيف القرية وما حولها، حسب ما نشرته جريدة السفير، فى ممارسة تجسد حالة استعباد بدائية ممقوتة، يمكن تصورها فى مجتمعات ما قبل الدولة، وليس فى بلد يعرف قيمة الإنسان والقانون. والخوف الأكبر أن يمارس اللبنانيون عنصرية ممقوتة فيما بينهم بعد أن يعود اللاجئون إلى ديارهم، وحينها سيصبح لبنان التعايش فى ذمة التاريخ.