عبد الجليل الشرنوبى
الأقصى الذى يُحَاصِرُه نِضَالُنا!
مشهد واحد رئيس متكرر، يطرق باب وعى جيل ينتمى إليه كاتب هذه السطور، حدثه الأساسى تماماً كما لا تتبدل ردود الأفعال فيه، زمان المشهد ممتد منذ عام 1948م وحتى الآن، ومكان الحدث مفتوح على ساحات الأرض المباركة «فلسطين»، أما الفاعل فى المشهد فهو المحتل الذى اجتمع من شتات الأرض بمباركة النظام العالمى قديماً وحديثاً، والفعل تمادٍ فى العدوان وصلف فى البغى وانتهاك لكل مقدس بدءا من الإنسان ووصولاً إلى دور العبادة الإسلامية والمسيحية، ومروراً بشجر الزيتون.
لافرق فى مشهدنا على مستوى التفاصيل، فبالأمس البعيد 1948 كان أن قصفت العصابات الصهيونية المسجد الأقصى وساحاته بخمس وخمسين قنبلة فى نفس التاريخ الذى يزعمون أنه ذكرى تدمير هيكل سليمان، وبأمس غير بعيد عن طعم هزيمة 1967 وتحديدا بعد ثلاثة أيام دخل الجنرال (موردخاى جور) ومعه جنده إلى ساحات الأقصى ورفعوا العلم سداسى النجمة على قبة الصخرة ثم حرَقُوا المصاحف، بعدما منعوا المصلين من الصلاة فيه وصادروا مفاتيح أبوابه، وهكذا بدأ الأمس الصهيونى يجثم على واقعنا مخرجاً لسانه لنضالنا الحنجورى الذى لا يغادر ساحات الإعلام وبكائيات الغناء على أشلاء قضايانا.
أمس عام 1969 أحرق الصهاينة المسجد الأقصي، ثم اقتحم نائب رئيس الحكومة الصهيونية (إيفال ألون) ومساعده المسجد، ثم أمس بعد سبع سنوات قررت فيه المحكمة المركزية الصهيونية بأن (لليهود الحق فى الصلاة داخل الأقصي)، فأمس عام 1981م، بطعم الهيكل الصهيونى حين نفذ أعضاء فى حركة (أمناء جبل الهيكل) اقتحاماً للأقصى رافعين علم المحتل مع التوراة، وبعده تم الكشف عن حفر حاخام حائط المبكى وعمال من وزارة الشؤون الدينية لنفق يمتد أسفل الحرم القدسى بدءا من حائط البراق. لم يتوقف عرض الأمس الصهيونى عن التواصل ما بين محاولات اقتحام مالتى قادها «جوشون سلمون» رئيس حركة «أمناء جبل الهيكل» لساحة الأقصى عام 1982، وإطلاق نار بشكل عشوائى على المصلين كما فعل الجندى (هارى جولدمان)، وبينهما أخبار تؤكد انهيارات وتصدعات بفعل الحفريات الصهيونية تحت الأقصى وبمباركة القضاء الصهيونى ودائرة الآثار ثم بلدية الاحتلال ووزارة تعليمه وحتى شركات الدعاية، إننا نتحدث عن أمس ماض ومستمر يحفر ويقنن ويرفض الترميم ويطبع الخرائط التى تمحو كل أثر لحق ويحول المقدس إلى صورة مطبوعة لقبة الصخرة على زجاجات (فودكا) صهيونية الإنتاج، ويحول المسجد الوقف الإسلامى إلى صورة لهيكل مزعوم وهكذا يستمر إيقاع الأمس الجاثم احتلالاً على صدر الإنسانية وصولاً إلى مشهد غلق المسجد الأقصى الذى يحياه واقعنا.
إن هذا الأمس يحيلنا إلى واقع النضال فى زمن ما بعد الربيع العربي، حين يقرر الباحثون عن دور فى فراغ أوطاننا الساعية إلى البقاء، أن يحيلوا نضالهم إلى ساحات الفضاء الإلكتروني، لينقسموا حول مدى إنسانية المقاومة على إثر الصورة التى روجها إعلام الاحتلال لمطبخ ملطخ بالدماء فى مستوطنة (حلميش)، وليدخل الوعى الجديد للمصرى والعربى والإنسانى مرحلة النضال المميع للقضية، والجهاد ضد الذات، والمقاومة لكل عنوان كان قادراً على أن يوحد الإنسان على طاولة الحق.نحيا فى أمس مستمر يعاد فيه إنتاج طعم الهزيمة لتتحول إلى نضال فى الفراغ، وتشكيل فى العدم، وترويج لكل شعارات الفرقة التى عبرها يعبر المحتل إلى الوعى العربى والإنسانى ليكرث ما شاء من حقوق مزعومة ومقدسات مُدْعاة، وهيكل سداسى النجمة حاد النصال، يغرزها فى مآق أبت أن تنظر إلا نحو أمانيها فى البقاء نجوماً لساحات نضال إلكترونى عنوانها ( لايك وشير)!
ضحايا لأمس صنع من تنظيمات الدين السياسى أدوات تفتيت وتشتيت للمجتمعات وآلات تقطيع لأوصال القضايا والدول، يرفعون شعارات فلسطين من البحر إلى النهر، و(يا حكام البلاد افتحوا باب الجهاد)، حتى إذا ما تم مواربة الباب عبروه إلينا ليعلنوا (علشان نحرر القدس لازم نحرر مصر) أو سوريا أو ليبيا أو العراق، المهم أن يحرر الأوطان من مكونات ثباتها، وأن يسقطوا جيوشها لتحيا تنظيماتهم ولتبقى ماكينات تفتيتهم تعبث بالدين والإنسان.أغلقت سلطات الاحتلال المسجد الأقصي، ونحن غرقى فى محيط من شعارات النضال التى بها نبيع ما تبقى من القضية لنقتات، والتى عبر نافذتها المتآكلة نطل علنا نحصل على (اللَقْطَة) المؤهلة للبقاء نجوماً للإعلام الجديد، والتى من خلال المتاجرة بشعاراتها نضمن استمرار التنظيمات فى اصطياد عقول البراءة ودولارات المتبرعين للقضية التى باعها الجميع.
إن أمس ممتدا نحياه، وسيبقى مستمراً طالما بقيت الآمال معقودة برضى النظام الدولى الذى رعى نشأة دولة الاحتلال، وطالما بقيت مصر تحارب مؤامرات إسقاطها بأيدى كل مناضلى التنظيمات الدينية والثورات الإلكترونية وفنون الهدم وإعلام التسطيح والتبعية، ودعونا نعترف لم يحاصر الأقصى المحتل إلا عندما حاصرناه بتجارات النضال فى سبيل ذواتنا