الأهرام
صلاح سالم
إسرائيل كملاكم من دون خصوم
طيلة تاريخه الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام، لم يتحول «الدين اليهودى» إلى ما يمكن تسميته بـ «الحضارة اليهودية» رغم تكوين مملكتين سياسيتين بداية الألف الأول قبل الميلاد، وممارسة نوع من الحكم الذاتى فى عصر المكابيين (القوميين اليهود) فى القرن الثانى قبل الميلاد، قبل أن ينتهى وجودهم السياسى المستقل بتحطم هيكلهم الثانى على يدى القائد الرومانى تيتوس عام 70م، وبداية حقبة شتات طويل استمرت نحو الألفى عام، من دون دولة مستقلة، حتى تمكنت الحركة الصهيونية من تأسيس إسرائيل قبل سبعة عقود فقط.

قامت إسرائيل وخاضت حروبها الأولى ضدنا من أرضية صهيونية علمانية، انتصرت دوما علينا، اللهم سوى فى لحظات استثنائية نادرة شهدت تراجعا إسرائيليا سواء عسكريا (أكتوبر 1973م) أو دبلوماسيا (1978) أو إستراتيجيا أمام حزب الله 2000، 2006م. وهكذا أخذت الصهيونية العلمانية تغرق فى نزعات ميتافيزيقية ومشاعر نرجسية دفعت بها نحو صهيونية دينية، أكثر عنفا وشراسة وتطرفا، تستعيد عقد الخيرية والتفوق والاستعلاء القديمة، لتجعل منها مانيفستو للتطهير العرقي، والعدوانية الشاملة، مسلحة بكل ممكنات الحداثة التقنية، لتبقى إسرائيل بعد سبعين عاما من نشأتها، وخمسين عاما من عدوانها الواسع علينا (يونيو 1967م) دولة استيطانية عنصرية، تحتل فى القرن الحادى والعشرين بعد ميلاد المسيح أراضى الآخرين بعهد توراتى يسبق هذا الميلاد بأكثر من ألف عام، بل إنها لا تزال تطمح إلى قضم أراض أخرى بقانون «قومية الدولة» يكاد يمثل إعلان وفاة نهائيا لأحلام / أوهام السلام، حتى تكاد القاعدة القديمة تتأكد: وهو أنه كلما عاش اليهودى كفرد، كان إضافة للحضارة، وكلما نحى إلى إعادة تشكيل وجوده السياسى الجمعى كان رمزا للعدوانية، التى لا تعدو إسرائيل أن تكون تجسيدا كاملا لها، إذ تتبدى كمولود تاريخى لقيط، أنانى وسادي، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه النهم إلى مشاهدة روايته التاريخية معادة ومصورة للغير أمام عينيه فى دراما إنسانية أكثر مأساوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الذاتى التى غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن حيث تصبح القوة، مع المبالغة فى إظهارها، هى الوثيقة الرئيسية، وصك النسب الوحيد إلى صيرورة الزمن، الأمر الذى يحيل هذا الكائن اللقيط إلى ملاكم فى حلبة واسعة يلاكم من فوقها الجميع، حتى فى أوقات الراحة وبعد نهاية كل جولة، بل كذلك بعد نهاية المباراة نفسها خوفاً من الهزيمة / العدم، ولو بدى انتصاره واضحا فى كل جولة سابقة، لأنه لا يثق، ولا يمكن أن يثق، فى خصمه ولا فى الحكم/ التاريخ، ولا حتى فى قواعد اللعب التى تجعله محدودا بزمن لابد أن ينقضي.

تلك هى إسرائيل، التى اعتدناها منذ عقود، لا جديد لديها عندما تقتل مدنيين عزل يدافعون عن حقهم فى إقامة شعائرهم فى مسجدهم المقدس، لكن الجديد حقا هو ما يحدث عندنا، فقد كان معتادا أن يفور الجمهور العربى إلى شوارع العواصم الكبري، وأحيانا الصغري، منددا ومهددا، حارقا الأعلام الإسرائيلية ومعها الأمريكية، موجها سبابه إلى الغرب «الصليبي» الكاره للمسلمين، أو أوروبا «الاستعمارية» الباغية على حقوق العرب. ولا يزال المرء يتذكر واقعة اغتيال محمد الدرة عام 2000م، وكيف تحول الطفل الصغير إلى أيقونة فى إدانة الممارسات الإسرائيلية المتدنية، وعنف سلاحها الغاشم، فدارت صورته أربعة أنحاء العالم، وبثتها وجميع وكالات الأنباء الأجنبية بعد العربية، وكيف أبكت الكثيرين، وأوجعت ضمير الآخرين.

فى مثل هذه المناسبات أو ما يشبهها، كانت تعقد مؤتمرات عربية وزارية، وأحيانا رئاسية، أو مؤتمرات إسلامية، طالما أعلنت تنديدها بالمحتل، وإدانتها للصمت الدولي، والتواطؤ الأمريكي، وتجاوبها مع أحلام شعوبها العربية والمسلمة فى رفض الاحتلال الإسرائيلي، وإدانة عدوانيته الغاشمة، رغم أن التنديد لم يكن كافيا لتراجع إسرائيل عن سياساتها العدوانية، ولا الشجب كان رادعا لها عن حماقاتها، وهو ما كان يثير سخرية تلك الشعوب آنذاك. غير أن وقتا مضي، ليس طويلا، اختفت بعده تلك المؤتمرات جميعا، وانتفت فيه القمم العربية أو الإسلامية، فخسرنا الإدانة والشجب العنيفين، واستبدلنا بهما استجداء يصدره وزير خارجية هنا أو متحدث باسمه هناك، يدعو العدو إلى عدم التصعيد. والمفارقة الكبري، بعد وقت آخر، هى أن الشعوب نفسها لم تعد مكترثة بالشجب ولا بالإدانة ولا حتى بالاستجداء، لقد صارت الجماهير مشغولة بأحوالها، بقوت يومها، بعد أن انهمك الحكام والحكومات بتعميم استبدادهم، وتأبيد حكمهم، بحروب أخذوا يخوضونها هنا أو هناك ليست أبدا فى مكانها، ولمواجهة أعداء وهميين ليسوا أبدا أعداءها، وهو ما أدركته إسرائيل، فتيقنت أن هذا زمانها، وقد آن أوانها، بعد أن صارت صديقة للجميع، موضع سرهم، الذى يعقدون معه صفقاتهم، يلتقون كبار مسئوليها ليلا وينفون ذلك ظهرا، يطلبون ودها بدلا من ود شعوبهم، ويخطبون قرارها بدلا من إرادة مواطنيهم، فما الذى يمنعها من أن تعربد فى كل أرض، وأن ترفع كل سيف، وأن تقتل كل بشر، وأن تهدم كل عمران وأن تدوس على كل مقدس بأرجلها الغليظة؟.. هل تمنعها قيمها السياسية، وادعاءاتها الديمقراطية، كيف وهى دولة الاحتلال الاستيطانى الباقية وحدها فى عالمنا، المؤسسة بقوة أساطير توراتية، تدعى ملكية الأرض بعهد اختيار إلهي، يمثل أقصى درجات العنصرية تحت الراية الإلهية؟.. أم يمنعها نظام عالمي، يرعى قانوناً دولياً، لم يتمكن يوما من فرض قرار واحد عليها فى وجود فيتو أمريكى صلب، معد دائما للاستخدام كصاروخ أرض جو مثبت على قاعدة ثابتة، خصوصا وقد صار الفيتو فى أيد قوية طائشة، مؤيدة للحليف أكثر، بينما شغفها بالقانون والعدل والقيم الإنسانية المرعية أقل؟.. أم تمنعها قوة أعدائها، الكثيرين ولكن كغثاء السيل، الذين أمعنوا فى الكذب على أنفسهم، فلم يعد الآخرون يصدقونهم، أو يعيرون اهتماما لإداناتهم أو حتى توسلاتهم؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف