جمال سلطان
مؤتمر الشباب وتأميم السياسة
لا أعرف لماذا تصر الرئاسة على الاستمرار في الصور الاحتفالية والشكلية في إدارة الحياة السياسية في مصر ، بينما الواقع الحقيقي متهرئ والعالم كله يراه وينتقده ، والرئيس السيسي نفسه يسمع هذا الاتهام والوصف في أي حوار صحفي في عواصم العالم ويجيب إجابة تبريريه بأن الظروف في مصر لا تسمح بالديمقراطية ولا الحريات العامة كما تعرفها الدول الأخرى ، ومع ذلك يصر على أن يصطنع "صورة" ديمقراطية غير حقيقية في الداخل ويعقد مؤتمرا شكليا تقوم فيه الأجهزة الأمنية باختيار وفلترة مجموعة من الشباب لكي يكونوا "ديكورا" لاحتفالية لقاء الرئيس ، ثم ينفض السامر كل مرة دون أن تدري على ماذا تم الاتفاق وما هي معالم التزام الرئيس نفسه بما تم الكلام فيه ، وتبدأ الدورة الجديدة بعد عدة أشهر من أول الصفحة ، وكأن شيئا لم يكن من قبل .
في لقائه اليوم في الاسكندرية يسأل الرئيس ويرد على سؤاله : "بنقعد ليه؟ علشان نسمع بعض وأشكي لكم وتشكولي واشكي لكم حالي وحال بلدي" ، هذا كلام لا يصح أن يقوله مسئول رفيع ، فضلا عن رئيس الجمهورية ، فالدولة لا تدار بمنطق الفضفضة والطبطبة وأشكي لك همي والشعبوية المتجاوزة للمؤسسات بما فيها الأحزاب السياسية ، وإنما تدار الدول بمنطق احترام قواعد الدستور بإتاحة المعلومات الكاملة لكل مواطن ليعرف الحقائق عن أداء الحكومة وعن المال العام وعن الإنفاق وعن السياسات بشكل عام ، فلا ينتظر الرئيس لكي يفضفض معه فيعرف ، وبمنح المواطن حقه في الاحتجاج والمراجعة والنقد وأن تكون له أحزابه الحرة بخبرائها الذين يملكون البدائل والإجابات والحلول ، وكذلك يفترض أن الرئيس يملك أدواته الدستورية التي تتيح له معرفة مشكلات الوطن والمواطن لأن دوره هو العمل على حلها ، وليس بانتظار مجموعة من الشباب تأتي بهم الأجهزة الأمنية لكي يشكوا له همهم .
لماذا لا يرفع الرئيس الحصار المفروض على الأحزاب السياسية وعلى القوى الوطنية ، ويمنحها (الحقوق) الدستورية ، بدلا من محاصرتها داخل مقارها ، وترويعها عن أي نشاط عام ، والانشغال بإدارة الانقلابات الداخلية فيها لتأديب من يتمرد وتسليمها للمرضي عنهم ممن يقولوا "آمين" ، لماذا لا تعقد الأحزاب نفسها مثل تلك المؤتمرات من خلال شبابها وخبرائها وترفع التوصيات للرئاسة والحكومة والبرلمان ، بدلا من أن تؤمم الرئاسة النشاط السياسي كله إلا ما تديره هي وما تقوم به هي ، لماذا تحاصر السياسات الرسمية الإعلام وتؤممه فلا يترك إلا ما ينطق بلسان السلطة ووجهة نظرها ، والباقي يتم دفنه أو حجبه أو محاصرته وتهديد القائمين عليه ، فإذا كان الرئيس حريصا على أن يسمع هموم الناس ، لماذا لا يترك الصحافة الحرة تكشف له هموم الناس ويصبر على كلامهم القاسي الصريح ، طالما أن النية هي أن يعرف همهم ويعرفوا همه ، وليس مجرد "الصورة" والاحتفاليات الشكلية للإيحاء بأن القيادة تتواصل مع شباب مصر ، وكأن شباب مصر هم هؤلاء المائة أو المائتان الذين رشحتهم الأجهزة الأمنية للتصوير مع الرئيس .
في مؤتمر الشباب اليوم يتحدث الرئيس بالأسلوب العاطفي المألوف والحماسي : ليس أمامنا إلا أحد طريقين ، إما الكفاح وإما الاستسلام ، وهو كلام بالغ الغرابة ، فلا أحد من السامعين يعرف أساسا : يكافح ماذا أو يستسلم لماذا ، هل نكافح القمع وتكميم الأفواه وغياب العدالة والشفافية وإهدار استقلال القضاء وسوء إدارة الثروة الوطنية ، أم نستسلم لكل تلك الإجراءات .
وقد غضب الرئيس من أحدهم عندما طالب برفع مرتبات العاملين لأنها ضعيفة وقال: (انت فاكر إني مش عارف إن المرتبات ضعيفة ، طبعا أن عارف إن المرتبات مش جيدة لكن قل لي أجيب منين ؟) والحقيقة أنه لو كان الحوار حرا وجادا وغير معلب أمنيا ، لخرج فيه من يوضح للرئيس ـ وبكل الأدب الذي يليق بمقام الرئاسة ـ منين يجيب ، وكيف يمكن أن نصلح الأولويات المختلة لإدارة شئون الدولة فنوفر عشرات المليارات لتحسين رواتب الموظفين والأطباء وأساتذة الجامعات وغيرهم ، وكيف يمكن أن نتفادى إهدار مليارات الدولارات على مشاريع "لرفع الروح المعنوية" ، بدون مردود حقيقي على الشعب الذي يعاني ، محض إهدار للثورة الوطنية ، وكيف يمكن أن تتحقق العدالة المالية فلا تمنح فئات بعينها امتيازات مالية وزيادات مستمرة في الرواتب ثم نقول للباقي : أجيب منين ؟ ، وكيف تكون الأولويات لإنشاء المصانع وإعادة تشغيل ما تعطل منها وتحديث إدارة الانتاج لتعظيم الدخل القومي وليس لبناء مدن ضخمة جديدة بدون أي ضرورة تقتضيها اللحظة ولا المستقبل القريب ، وأن من يخطط لنهضة أمة يكون مشغولا بالإنفاق على المزيد من المدارس والمكتبات ومراكز الأبحاث وليس بالإنفاق على تأسيس المزيد من السجون ، لكن المشكلة أن مثل هذا الكلام لن يسمعه الرئيس في المؤتمر ، ولن يجرؤ أحد هناك على أن يواجهه أو يناقشه فيه ، فكل شخص تم استدعاؤه يعرف حدود دوره في "الصورة" ، وسوف يغادر الرئيس المؤتمر وهو مستريح البال أنه "أقنع" شباب مصر بوجهة نظره وعواطفه الحماسية ، وفي الحقيقة لم يقتنع أحد ، حتى هؤلاء الشباب الذين حضروا معه المؤتمر .
نهضة الدول تقوم دائما عبر إصلاح الجناحين : السياسة والاقتصاد ، غير أن الرئيس عبد الفتاح السيسي ما زال مصرا على أنه يمكن أن يطير وينهض بمصر من خلال جناح واحد ، جناح الاقتصاد ، ولا يريد أن يعتبر حتى من خطأ تقديراته هو نفسه ، التي كان فيها يتصور فيها قبل أربعة أعوام أن تنقشع الغمة في ستة أشهر ثم في سنتين وها تشوفوا مصر تانية خالص ثم ستة أشهر أخرى ثم سلم أخيرا بأن الأيام القادمة صعبة هي الأخرى ، ولو بقي خمسين سنة أخرى في هذا الطريق فسيظل غارقا في الديون ومستندا على مساعدات المشفقين من هنا وهناك وسيظل الشعب المصري يغرق في البؤس يوما بعد يوم بلا أي أفق للإفاقة أو الخروج من نفق الفقر والانهيار والتعاسة المظلم .
يا سيدي الرؤية كلها من البداية خطأ ، ضع نقطة هنا وابدأ من أول السطر ، ولا تضيع المزيد من وقتك ووقت بلد بحجم مائة مليون إنسان .