المصريون
احمد السيد على ابراهيم
الرد على شبهة {عدم حاجة الناس لأهل الذكر}
الحمد لله حمدا لا ينفد أفضل ما ينبغى أن يحمد وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد ، أما بعد …

فما زال أعداء الإسلام يثيرون الشبهات لصرف الناس عن دينهم ، فعمدوا – فى المرحلة الأولى – إلى الطعن فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم ، محاولين تنحيتها جانبا ، والإكتفاء بالقرآن الكريم ، بزعم أنه كاف بنفسه ولا يحتاج إليها ، ولم يكتفوا بذلك – فانتقلوا إلى المرحلة الثانية – بإثارة شبهة أن القرآن بيان بنفسه لقوله تعالى : { هذا بيان للناس } ( آل عمران 138 ) ، ولا يحتاج إلى من يبينه لهم ، وإلا لما كان بيانا ، وبنوا على قولهم هذا أنه لايوجد فى الإسلام ما يسمى بعلوم الدين ، ولا حاجة للمسلمين لأهل الذكر الواردين فى قوله تعالى { فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ، فلكل مسلم أن يرجع إلى القرآن فيفتى نفسه بنفسه ، وهدفهم من هذا ، الوصول إلى تنحية القرآن جانبا ، وصرف المسلمين عن العمل به ، تمهيدا لردتهم عن الإسلام – وهى المرحلة الأخيرة من المخطط – مصداقا لقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } ( البقرة 109 ) وللرد على هذه الشبهة ، وبيان كذبها ، نعرض الآتى :-

أولا : البيان قد يكون بذاته ، أو بواسطة :-

أرسل الله عز وجل أنبياءه إلى أقوامهم ، فكان كل نبى يرسل إلى قومه خاصة ، ولأن محمدا خاتم الأنبياء ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فقد أرسله ربه للثقلين ، الإنس والجن ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ( سبأ 28 ) وقال صلى الله عليه وسلم : { وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصةً ، وبُعِثتُ إلى الناسِ عامةً } ( رواه البخارى ) والمعلوم يقينا أن الناس متفاوتون فى إلمامهم باللغة العربية ، لغة القرآن الذى أنزل به ، قال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ( يوسف 2 ) فأكثر الناس الآن – من غير العرب – لا يعرفها ، ولا يحسنها ، ومن العرب من يعرفها ويتكلم بها ، ولكنه أمى لا يقرأ ولا يكتب ، فهل يمكن أن يتبين هؤلاء القرآن بأنفسهم ؟!! أم يحتاجون إلى من يبينه لهم ؟!! ولو قام غيرهم ممن يحسن قراءة القرآن ببيانه لهم ، هل ينتفى عنه أنه بيان للناس ؟!! لم يقل بهذا الفهم الضال أحد من أهل العلم المعتبرين ، ولا من عقلاء الناس ، وهو ما يدحض ما ذهبوا إليه من زيغ وضلال ، إذ لو كان بيانا بنفسه لقرأه هؤلاء وفهموه ، وبان لهم !!

بل ليس كل من يحسن القراءة يستطيع أن يتبين كل ما جاء بالقرآن بنفسه ، إذ أنه يحتاج فى بعضه إلى من يبينه له ، فالنبى صلى الله عليه وسلم ، كان يبين لأصحابه ما أشكل عليهم ، والأمة – بعد وفاته – تحتاج إلى بيان العلماء أهل الذكر لما أشكل عليها ، ولا ينفى بيانه صلى الله عليه وسلم ، أو بيان العلماء للقرآن أنه { بيان للناس } ومما يؤيد ذلك أن الله أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، منه آيات بينات لا تحتاج إلى تبيين من أحد ، ومنه ما يحتاج إلى تبيين ، فقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } ( آل عمران 7 )

قال إبن كثير – رحمه الله – فى تفسيره : { يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي : بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ، وحكم محكمه على متشابهه عنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس ، ولهذا قال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) أي : أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ( وأخر متشابهات ) أي : تحتمل دلالتها موافقة المحكم ، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث المراد .} أهـ

وقال : { قال تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي : ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ( فيتبعون ما تشابه منه ) أي : إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها ، لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال : ( ابتغاء الفتنة ) أي : الإضلال لأتباعهم ، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهذا حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ) [ الزخرف : 59 ] وبقوله : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله ، وعبد ورسول من رسل الله .

وقوله : ( وابتغاء تأويله ) أي : تحريفه على ما يريدون ، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن …

وقوله ( وما يعلم تأويله إلا الله ) اختلف القراء في الوقف هاهنا ، فقيل : على الجلالة ، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل . ويروى هذا القول عن عائشة ، وعروة ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم …..

ومنهم من يقف على قوله : ( والراسخون في العلم ) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد . وقد روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله . وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . وكذا قال الربيع بن أنس . … ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله تعالى : { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } ( يوسف : 100 ) وقوله { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } ( الأعراف : 53 ) أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ، ويكون قوله : ( والراسخون في العلم ) مبتدأ و ( يقولون آمنا به ) خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى : { نبئنا بتأويله } ( يوسف : 36 ) أي : بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على : ( والراسخون في العلم ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله : ( يقولون آمنا به ) حالا منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ، كقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) إلى قوله : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية ( الحشر 8 – 10 ) ، وكقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) أي : وجاءت الملائكة صفوفا صفوفا .

وقوله إخبارا عنهم أنهم ( يقولون آمنا به ) أي : بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) أي : الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ( النساء : 82 ) ولهذا قال تعالى : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي : إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة .} أهـ .

فالقرآن ينقسم إلى أربعة أقسام فى تفسيره ، وبيانه ، هى :

القسم الأول : ما لا يعذر أحد بجهله :

وهذا يشمل الأمر بالفرائض ، والنهي عن المحارم ، وأصول الأخلاق والعقائد ، فقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } (البقرة :43 ) ، وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ( آل عمران : 97) ، وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة :183) لا يعذر أحد بجهل مثل هذه الخطابات وهو يقرأ القرآن ، وكذا يدخل فيه ما جاء من أمر بالصدق والأمانة والنهي عن الكذب والخيانة ، وعن إتيان الفواحش ، وغير هذه من الأوامر والنواهي المتعلقة بالأخلاق ، ويدخل فيه ما يتعلق بالعقائد ؛ كقوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } ( محمد 19 ) ، وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ( الانبياء :25 ) ، وغيرها من الأوامر والنواهي المتعلقة بالتوحيد ، هذه كلها داخلة في الواجب الذي يجب على المسلم تعلمه من التفسير .

القسم الثانى : ما تعرفه العرب من كلامها :

يشمل هذا القسم ألفاظ القرآن ، وأساليبه في الخطاب ، وذلك لأنه نزل بلغتهم وعلى طرائقهم في الكلام ، وهذه الألفاظ والأساليب معلومةٌ لديهم غير خافية ، وإن كان قد يخفى على أفراد منهم شيء منها ، وذلك لغرابتها على مسمعه ، أو لعدم اعتياده عليها في لغة قومه ، كما خفي على ابن عباس رضى الله عنهما بعض معاني مفرداته ؛ كلفظ فاطر ، فقد روى الطبري عن مجاهد ، قال : { سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ؛ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : لصاحبه : أنا فطرتها ؛ يقول : أنا ابتدأتها } وكما خفى على عمر رضى الله عنه ، معنى { أبا } ( أى الكلأ والمرعى التى ترعى عليه الماشية ) ، فقد قرأ عَبَسَ وَتَوَلَّى فلمَّا أتى على هذهِ الآيةَ { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } قال : عرَفنا ما الفاكِهَةُ ، فما الأَبُّ ؟ فقال : لعَمرُك يا ابنَ الخطَّابِ إنَّ هذا لهوَ التَّكَلُّفُ } ( رواه إبن كثير فى تفسيره ) فإذا خفى هذا على عمر وإبن عباس ، فخفاؤه على من هم دونهما الآن من باب أولى .

القسم الثالث : ما يعلمه العلماء :-

ومما يشمله هذا القسم ، ما تشابه منه على عامة الناس ، سواءً أكان في الأحكام أم في المعاني وهذا القسم من فروض الكفاية ، وهو كثير في القرآن ؛ لأن كل من خفي عليه معنى فإنه من المتشابه عنده ، فيحتاج إلى أن يبحث أو يسأل عن ما خفي عليه فهم معناه ، ومنه أحكام الربا ، والطلاق ، والمواريث .

القسم الرابع : ما لا يعمله إلا الله ، ومن ادعى علمه فقد كذب :-

ويشمل هذا حقائق المغيبات ، ووقت وقوعها ، فالدابة التي تخرج في آخر الزمان ، الواردة فى قوله تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } ( النمل 82 ) لا يعلم كيفية حقيقتها إلا الله ، ولا يعلم وقت خروجها إلا الله . وهكذا سائر الغيبيات ، وهذا النوع غير واجب على أحد ، بل من تجشم تفسيره فقد أثِمَ وافترى على الله ، وادعى علمًا لا يعلمه إلا الله سبحانه

وقد جمع هذه الأقسام الطبرى – رحمه الله – فى تفسيره ، فقال : { ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله : قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه ، لنبيه محمد : ” وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ” (النحل : 44) وقال أيضاً جل ذكره : ” وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ” (النحل : 64) وقال : “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ” ( آل عمران : 7 ). فقد تبين ببيان الله جل ذكره : أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه ، ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول . وذلك تأويل جميع ما فيه : من وجوه أمره – واجبه وندبه وإرشاده – وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض ، وما أشبه ذلك من أحكام آيه ، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله لأمته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه ، إلا ببيان رسول الله له تأويله ، بنص منه عليه ، أو بدلالة قد نصبها ، دالة أمته على تأويله. وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار . وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة ، وأوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك : فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها ، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه. وبذلك أنزل ربنا محكم كتابه ، فقال : ” يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” ( الأعراف : 187) . وكان نبينا محمد إذا ذكر شيئًا من ذلك ، لم يدل عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقته كالذي روي عنه أنه قال لأصحابه ، إذ ذكر الدجال : ” إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه ، وإن يخرج بعدي ، فالله خليفتي عليكم “، وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدالة على أنه لم يكن عنده علم أوقات شيء منه بمقادير السنين والأيام ، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه ، ووقته بأدلته .

وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن . وذلك : إقامة إعرابه ، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها ، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم . وذلك كسامع منهم لو سمع تاليًا يتلو: ” وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ” (البقرة : 11، 12 ) لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة ، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة ، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفساداً ، والمعاني التي جعلها الله إصلاحًا . فالذي يعلمه ذو اللسان الذي بلسانه نزل القرآن من تأويل القرآن ، هو ما وصفت : من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة ، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيه ، فلا يدرك علمه إلا ببيانه ، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه. وبمثل ما قلنا من ذلك روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا محمد بن بشار، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره . قال أبو جعفر : وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس : من أن أحدًا لا يعذر بجهالته ، معنى غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله . وإنما هو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لأحد الجهل به. وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضاً عن رسول الله خبر في إسناده نظر:حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت عمرو بن الحارث يحدث ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، مولى أم هانىء ، عن عبدالله بن عباس : أن رسول الله قال : ” أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابة لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى ذكره فهو كاذب ” – قال عنه الألبانى ضعيف جدا – } أهـ .

ومما يؤيده أيضا ، ورود كلمة { يسألونك } للنبى صلى الله عليه وسلم ، فى القرآن ثلاثة عشر مرة ، بما يدل على أن إجابته صلى الله عليه وسلم على هذه الأسئلة بيان للقرآن ، يدخل تحت قوله { هذا بيان للناس }

ثانيا : ذكر القرآن والسنة للعلم ، والعلماء ، والفقهاء ، دليل على حاجة الناس لهم :-

فقد ورد لفظ ( العلم ) في القرآن الكريم بتصريفاته المختلفة أكثر من سبعمائة وخمسين مرة ، مشفوعاً معظمها بالدعوى إلى التدبر في آيات الله المسطورة ، كما في قوله تعالى : { كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون } ( فصلت :3 ) ، والتفكر في آياته المنظورة ، كما في قوله سبحانه : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } ( الأنعام : 97 ) ، غير أن لفظ ( العلم ) ورد في مواضع من القرآن على معان غير معنى العلم بالشيء ، ومعرفته على حقيقته ، ومن هذه المعانى ، ورد العلم بمعنى ( الدين ) ، ومنه قوله سبحانه : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } ( البقرة :120 ) ، قال أبو حيان : أي : من الدين . وجعله عِلْماً ؛ لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة . وقال الرازي : أي : من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة .

ومن ثم يتضح زيغ وضلال هؤلاء فى دعواهم ، عدم وجود ما يسمى بعلوم الدين – من فقه وأصوله ، وحديث وعلومه ، وقرآن وتفسيره ، وعقيدة ، وغيرها من أصناف العلوم الشرعية – والواقع أيضا يكذبهم ، فلا يوجد شىء من أمور الدنيا ، إلا وقد وضع له أهله علما يضبطه ، ويهدى الناس إليه ، من طب وهندسة ، وفلك ، ورياضة بأنواعها ، بل لم تخلو المفاسد من علم يضبطها لأصحابها ، فكيف يعترف هؤلاء المضلون بهذه العلوم المتنوعة ، ويحترمون أهل الإختصاص فيها ، وينفون ذلك عن علم الشرع المطهر ، ويستهزؤن بأهله ، إلا لتحقيق غرضهم الخبيث من صرف الناس عنه ؟!!

كما أن القرآن قد بين أن لبنى إسرائيل علماء ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ? 197 الشعراء ? وشريعة الإسلام أكبر فى تشريعاتها من كافة الشرائع السابقة فحاجتها للعلماء الربانيين أهل الذكر – بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم – أوكد من باب أولى ، ولذلك مدح الله من أوصله علمه لخشيته سبحانه فقال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ? 28 فاطر ?

وبذهابهم يذهب العلم ، ويفشو الجهل والضلال ، فعن عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما قال : { إن اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ من العبادِ ، ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ ، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا ، اتخذَ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالًا ، فسُئِلوا ، فأفْتَوا بغيرِ علمٍ ، فضلوا وأضلوا .} ( رواه البخارى ) فلو كان القرآن بيانا بنفسه ، ولا يحتاج للعلماء الذين يبينونه للناس ، فلماذا يذهب العلم بذهابهم ، ولماذا يفشو الجهل بقبضهم ، بالرغم من بقائه بعدهم ؟!!

وقد نهى الله المسلمين عن خروجهم كلهم للجهاد ، وأوجب عليهم قيام بعضهم بالتفقه فى الدين ، للقيام بواجب تبليغه ، وتبينه للأمة ، فقال تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ( التوبة 122 ) فدل ذلك على أن المسلمين ينقسمون إلى قسمين : أحدهما : فقيه فى الدين مبين له ، والآخر : غير فقيه فيه يحتاج إلى الأول ليبينه له ، وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم أمته على التفقه فى الدين بقوله : { مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ } ( رواه البخارى )

كما بين سبحانه أن إستنباط الأحكام الشرعية ليس لكل أحد من الناس ، وإنما هو لمن وصل إلى رتبة الإجتهاد منهم ، وفى هذا دليل على أن الناس يحتاجون إلى من يبين لهم دينهم ، وأن بيانهم هذا داخل تحت قوله تعالى { هذا بيان للناس } ، قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى? أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } (النساء 83 ) ولذلك أمر الله بسؤالهم ، والرجوع إليهم لبيان ما أشكل عليهم ، فقال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( النحل 43 ) والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فتشمل جميع أهل الذكر فى جميع العلوم ، ومن جميع الأمم ، وليس بحصرهم فى علماء أهل الكتاب السابقين على الإسلام ، كما زعم هؤلاء .

ثالثا : الخلط بين الواسطة فى العلم والواسطة فى العبادة :-

وقد أشكل على هؤلاء الفرق بين الواسطة فى العلم ، والواسطة فى العبادة ، فنفوا ، وردوا حاجة الناس إلى العلماء كواسطة بينهم وبين تعلم الدين ، قياسا على إستغنائهم عن الواسطة فى العبادة ، بينهم وبين الله ، وهذا قياس فاسد ، فالعلم يحتاج إلى معلم ، ينقل العلم إلى الناس ، حتى الأنبياء عليهم السلام ، علمهم جبريل عليه السلام ، الوحى ، قال تعالى حاكيا عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى? ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى? ، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى? ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى? ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى? } ( النجم 1 – 5 )

قال الشنقيطى – رحمه الله – فى ” أضواء البيان ” : { المراد بشديد القوى في هذه الآية هو جبريل عليه السلام ، والمعنى أنه – صلى الله عليه وسلم – علمه هذا الوحي ملك شديد القوى هو جبريل . وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين : أحدهما : أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم ، علمه جبريل النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمر من الله . والثاني : أن جبريل شديد القوة . } أهـ .

ولم يعلمهم بشر قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَ?ذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ( النحل 103 ) ومن ثم فما هم دون الأنبياء يحتاجون إلى من يعلمهم ، ولا يمكن لهم أن يتعلموا من تلقاء أنفسهم ، فالناس ما بين عالم ، ومتعلم ، وعلم الشرع من هذه العلوم التى تحتاج إلى من يتعلمها ، ثم يعلمها للناس ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ( التوبة 122 ) وعن عثمان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه } ( رواه البخارى ) ، وروى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال : { أخذ علي بن أبي طالب بيدي، فأخرجني إلى ناحية الجبّانة، فلما أصحرنا جلس ثم تنفس ثم قال : يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، احفظ عني ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالمٌ رباني ، ومتعلمٌ على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق }

أما العبادة فلا تحتاج إلى واسطة بين العبد وبين ربه ، فالله لم يجعل بينه وبين عباده في عبادته واسطة من خلقه ، بل الواجب على العباد أن يتقربوا إليه وحده من غير واسطة فهو المستحق لجميع أنواع العبادة ، من الخوف والرجاء والحب والصلاة والزكاة وغيرها من العبادات القلبية والبدنية ، قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ( الأنعام : 162-163 ) وقال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ( البقرة 186 ) فلم يقل سبحانه وتعالى لنبيه { قل إنى قريب } ، ، وإنما قال { إنى قريب } لينفى الواسطة بينه وبين عباده ، حال عبادتهم له ، حتى ولو كانت تلك الواسطة ، ملك مرسل ، أو نبى مقرب ، فهؤلاء أشكل عليهم الفرق بين الواسطة فى العبادة ، والواسطة فى العلم ، فنفوا الثانية ، إعتمادا على نفى الأولى .

رابعا : سؤال الصحابة ينفى أنه مبين بنفسه :-

ومما يؤيد القول بأن الناس محتاجون لمن يبين لهم ما أشكل عليهم ، وأن هذا البيان لا ينفى عن القرآن أنه { بيان للناس } ما ثبت عن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم من آيات القرآن ، فلو كان مبينا بنفسه – فى كل ما جاء به – لما احتاجوا إلى سؤاله ، ومن هذا :

1- عن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال : { لما نزلت هذه الآيةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) . شقَّ ذلك على أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقالوا : أيُّنا لم يظلمْ نفسَه ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( ليس كما تظنون ، إنما هو كما قال لقمانُ لابنِه : ” يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ( رواه البخارى )

2- عن عدى بن حاتم الطائى رضى الله عنه قال : { لما نزلتْ : ” حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ” ( البقرة 187 ). قال له عديُّ بنُ حاتمٍ : يا رسولَ اللهِ ! إني أجعلُ تحت وسادتي عِقالَين : عقالًا أبيضَ وعقالًا أسودَ . أعرفُ الليلَ من النهارِ . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : إنَّ وسادَك لعريضٌ . إنما هو سوادُ الليلِ وبياضُ النهارِ } ( رواه مسلم )

3- عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ) فَقُلْتُ : أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } فَقَالَ : ( لَيْسَ ذَاك الْحِسَابُ ، إِنَّمَا ذَاك الْعَرْضُ ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ } ( رواه البخارى )

4- عن عائشة رضى الله عنها قالت : { سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن هذِهِ الآيةِ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قالت عائشةُ : أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ قالَ لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ( رواه الترمذى وصححه الألبانى )

خامسا : حاجة الناس لمن يبين لهم لبعدهم عن عهد النبوة :-

فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عن إختلاس العلم ، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : { كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فشخصَ ببصرِهِ إلى السَّماءِ ثمَّ قالَ هذا أوانٌ يُختَلَسُ العِلمُ منَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِروا منهُ علَى شيءٍ فقالَ زيادُ بنُ لَبيدٍ الأنصاريُّ كيفَ يُختَلَسُ العِلمُ منَّا وقد قَرأنا القرآنَ فواللَّهِ لنَقرأنَّهُ ولنُقرِئنَّهُ نساءَنا وأبناءَنا فقالَ ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا زيادُ إن كُنتُ لأعدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ المدينةِ هذهِ التَّوراةُ والإنجيلُ عندَ اليَهودِ والنَّصارَى فَماذا تُغني عَنهم قالَ جُبَيرٌ فلَقيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامتِ قلتُ ألا تسمَعُ إلى ما يقولُ أخوكَ أبو الدَّرداءِ فأخبَرتُهُ بالَّذي قالَه أبو الدَّرداءِ قالَ صدقَ أبو الدَّرداءِ إن شئتَ لأحدِّثنَّكَ بأوَّلِ عِلمٍ يُرفَعُ منَ النَّاسِ الخشوعُ يوشِكُ أن تدخُلَ مسجدَ جماعةٍ فلا ترَى فيهِ رجلًا خاشعًا } ( رواه الترمذى وصححه الألبانى ) فلملازمة الصحابة للنبى صلى الله عليه وسلم ، لم يكن لهم – رضوان الله عليهم – حاجة لما يسمى بعلوم الآلة ، – التى تعين على فهم الدين – لإمتلاكهم لها آنذاك – وإن لم تكن مدونة فى كتب – ومع بعد الناس عن عهد النبوة الأولى ظهرت الحاجة إليها ، فلم يكن الصحابة محتاجين لعلوم اللغة ، لفهم القرآن والسنة ، فهم أهلها ، فلما تغيرت ألسن الناس بدخول العجم – غير العرب – إلى الإسلام ، إحتاجوا إلى من يضبط لهم لغتهم فظهرت علوم اللغة ، ولم يكن لهم حاجة إلى علم الحديث ، لسماعه مباشرة من النبى صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يسمع مباشرة ، طلب من غيره أن يأتى بشاهدين على صحة روايته ، فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : { كنا في مجلسٍ عند أُبيِّ بنِ كعبٍ . فأتى أبو موسى الأشعريُّ مُغضَبًا حتى وقف . فقال : أنشدُكمُ اللهَ ! هل سمع أحدٌ منكم رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول ( الاستئذانُ ثلاثٌ . فإن أُذِنَ لك . وإلا فارْجِعْ ) . قال أُبيٌّ : وما ذاك ؟ قال : استأذنتُ على عمرَ بنِ الخطابِ أمسَ ثلاثَ مراتٍ . فلم يُؤذَنْ لي فرجعتُ . ثم جئتُه اليومَ فدخلتُ عليه . فأخبرتُه ؛ أني جئتُ أمسَ فسلمتُ ثلاثًا . ثم انصرفتُ . قال : قد سمعناك ونحن حينئذٍ على شُغلٍ . فلو ما استأذنتُ حتى يُؤذنَ لك ؟ قال : استأذنتُ ، كما سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . قال : فواللهِ ! لأُوجعَنَّ ظهرَك وبطنَك . أو لتأتينَّ بمن يشهدُ لك على هذا . فقال أُبيُّ بنُ كعبٍ : فواللهِ ! لا يقوم معك إلا أحدثُنا سنًّا . قم . يا أبا سعيدٍ ! فقمتُ حتى أتيتُ عمرَ . فقلتُ : قد سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ هذا .} ( رواه مسلم ) ، ولظهور بعض الكذابين الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضعوا بعض الأحاديث المدسوسة عليه ، ظهر علم الحديث الذى وضع ضوابط للناس للتمييز ما بين الصحيح والسقيم ، ولعدم علم الناس بالمكى والمدنى ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ، ظهرت علوم ، القرآن ، ثم ظهرت علوم ، أصول الفقه ، والقواعد الفقهية ، وغيرها ، وأنشأت الجامعات التى عنت بهذه العلوم لإخراج المتخصصين فيها ، إمتثالا لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ( التوبة 122 ) ، ومن ثم يتضح حاجة الناس الآن لأهل العلم ، المتخصصين أكثر من حاجتهم للطعام ، والماء ، والهواء ، فحاجتهم للعلم ، والعمل به تحييهم فى الدنيا ، والآخرة ، وحاجتهم للطعام وغيره تحييهم فى الدنيا فقط ، ويتضح تهاوى هذه الشبهة التى أثارها أعداء الدين ، لعزل الناس عن علمائهم ، وتعطيل العمل بالكتاب والسنة ، فليحذر الناس من هؤلاء المضلين ، حتى لا يقعوا فيما نهى الله تعالى عنه بقوله سبحانه : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ( الأنعام 121 ) .

والله الموفق .

نائب رئيس هيئة قضايا الدولة ، والكاتب بمجلة التوحيد .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف