لست ضد أكشاك الفتوى التي وضعها الأزهر في مداخل بعض محطات المترو، ولست معها أيضا، فالدين مسألة خاصة لا أحب أن نتعامل معها كسلعة تجارية ترص في الأكشاك، ولكن العديد من الناس في حاجة بالفعل لمن يوضح لهم أمور دينهم، ليسهل الحياة لا ليعقدها، فمع انتشار فتاوى التحريم أصبح كل شيء حراما، أصبح هناك كثير من الأشياء التي تمنعنا من الاستمتاع بالحياة وكلمة الحرام تلاحقنا في كل مكان، تتدخل في مأكلنا وملبسنا وفي لحظات الاستمتاع الصغيرة، فهل يمكن أن تخفف هذه الأكشاك من إحساسنا بالذنب؟ والأهم من ذلك هل يمكن أن تحسن من صورة الأزهر؟ الأزهر بعيد عنا، لا نصل إليه إلا من خلال المشايخ الذين يعتلون المنابر كل يوم جمعة ليصبوا غضب الله على رؤوسنا، ويتوعدونا بالعقاب وبنار لا تهدأ في نهاية الحياة، ولا نراهم أيضا إلا من خلال نجوم التليفزيون.. شيوخ مختالون بعباءتهم الفخمة وعمامتهم الملفوفة جيدا، وهم أيضا لا يكفون عن تهديدنا. أما في القرى الصغيرة والنجوع فالمصيبة أعظم، ففي هذه المساجد الصغيرة والزوايا يتم شحن العقول الغضة لآلاف الشباب بأكثر الأفكار تطرفا عن ضرورة الجهاد ودحر المجتمع الكافر، ومن هذه الزوايا خرج مئات المتعصبين الذين سافروا في الثمانينيات إلى أفغانستان ويسافرون الآن إلى سوريا وليبيا وشمال سيناء، هي التي زودت بؤر الإرهاب بالوقود اللازم من أرواح الشباب. باختصار الأزهر بعيد عن حياتنا العملية، وحتى الآن فإن ضرر البعض من مشايخه أكثر من نفعهم. في بعض البلاد الإسلامية التي زرتها كان الأزهر متهما، في الجزائر الشقيقة التي عانت من الإرهاب طويلا، مرت بها فترة يطلقون عليها "العشرية السوداء" لأنها استمرت عشر سنوات من 92 إلى 2002 لم تتوقف خلالها العمليات الإرهابية ولا المذابح، سقط ضحيتها عشرات الأبرياء، وخيم على البلاد كلها عصر من الإرهاب، فأصبحت حفلات الأعراس تقام أثناء النهار بعيدا عن رعب الليل، وتم إخلاء المتاحف من كل ما فيها من لوحات فنية وتماثيل، ومنع دخول الأجانب إلى أحياء معينة مثل القصبة في وسط العاصمة، وأخليت بعض القرى من سكانها، وامتلأت الطرقات بالدوريات الأمنية، وأخذت جميع الأطراف تتبادل الاتهامات، البعض يلقي اللوم على الجماعات الإرهابية من جبهة الإنقاذ والبعض يتهم بعض قيادات الجيش بأنهم يتعمدون إخلاء القرى من الأهالي ليستولوا على أراضيهم، لكنهم اتفقوا جميعا على شيء واحد وهو أن خطر الإرهاب قد جاء من الشرق، من المدرسين والمشايخ الذين جاؤوا ليقودوا حركة التعريب في البلاد فزرعوا بدلا منها أفكار التعصب وتكفير المجتمع، كانت التهمة موجهة لمشايخ الأزهر على وجه التحديد، الاتهامات نفسها موجودة في نيجيريا التي تعاني الآن من جماعة "بوكو حرام" و"مندناو" و"بوروما"، وسواء كان الدعاة الذين جاسوا خلال هذه البلاد تابعين للأزهر أم لا، فهو متهم في كل حالة، ولأن الأزهر هو المؤسسة الدينية الأبرز، فمن المهم أن يدافع عن سمعته وأن يحاول أن يستعيد مكانته. ولكن مشكلة أكشاك الفتوى ليست في وجودها ولكن فيمن يجلس بداخلها، من له القدرة على مواجهة الناس ومناقشتهم وإقناعهم؟ معظم المشايخ يحفظون جيدا آيات القرآن إضافة لبعض الأحاديث النبوية، ولكنهم يرددونها كالببغاوات، لا يخرجون عن النص لأنهم لا يمتلكون المقدرة المعرفية ولا المهارات التي توسع مجال الخيال، كما أن إحساسهم بالظروف الاجتماعية والسياسية المعاصرة التي نعاني منها منخفض بعض الشيء، لذا فإن اختيار هؤلاء المشايخ قبل أن يجلسوا داخل الأكشاك يجب أن يكون دقيقا، فهم داخل المسجد محاطون بقدسية المكان ورهبته، ولكنهم هنا في مهب الحياة العامة، ونحن نعرف موقف الأزهر من بعض القضايا الاجتماعية، وسوف يجد المشايخ الكثيرين الذين لا يوافقون عليها. قضية تحديد النسل على سبيل المثال لا يؤمن معظم المشايخ بضرورتها ويعتبرون أن استخدام وسائل منع الحمل ضد تعاليم الدين، وهو الأمر الذي عطل حتى الآن صدور قانون يلزم الجميع بألا يزيد عدد الأبناء على طفلين، حتى لا نكون متطرفين ونصر على طفل واحد كما فعلت الصين، لقد أصبحنا نقترب من المئة مليون نسمة، وما زلنا نعيش على رقعة الأرض نفسها التي وهبها لنا النيل، ولم يأت حتى الآن نظام قادر على زيادتها ولم نكف نحن عن التكاثر، هل سيؤيد شيخ الكشك تحديد الإنجاب؟ هل سيفتي لسائله باستخدام وسائل منع الحمل؟ هل سيحاول أن ينقذنا من القنبلة التي نفجرها في أنفسنا بدعوى أن الدين لا يسمح؟
وماذا عن قضية ختان الإناث؟ الجريمة القديمة المتجددة التي لم نستطع إيقافها حتى الآن، الطقس الدموي الذي يمارس سرًّا فيما يشبه العلن، لا نشعر بها إلا عندما تسقط ضحية جديدة من البنات، ما زال شيوخ الزوايا في الأرياف يجهرون به ويحرضون الآباء عليه بوصفه العاصم الوحيد لبناتهم، ماذا سيقول شيخ الكشك لسائله.. هل سيحرضه أم يردعه؟ وماذا سيقول له عن فوائد البنوك؟ حلال أم ربا؟ هذا التردد الذي استمر على مدى عقود طويلة وجعل آلاف الناس يقعون فريسة لشركات توظيف الأموال التي تخدعهم ثم تلتهم أموالهم، لقد أفقد هذا التردد عند رجال الدين الثقة في البنوك وجعل الناس يقعون فريسة لكل النصابين. وماذا سيقول شيخ الكشك لمن يسأله عن موقف الرجل من المرأة؟ وهل هي مساوية له عقلا ونفسا وبدنا أم أنها قد خلقت من ضلع أعوج، وأن عليه أن يبقيها في مرتبتها الدنيا؟ المرأة مظلومة في مواجهة بعض الحتميات الدينية، لا تستطيع أن تأخذ ميراثها كاملا لأنها ترث فقط نصف ما يرثه أخوها، ولا تستطيع التحكم في حياتها الزوجية لأنها عرضة للطلاق في أي وقت، ولا تستطيع أن تمنع زوجها من الزواج بأخرى، كيف يمكن أن يطمئن شيخ الكشك النساء اللاتي سيأتين إليه شاعرات بالظلم والخسارة؟ ماذا سيكون رده على العنف والتحرش علما بأن مصر من أسوأ الدول في التعامل مع المرأة. ماذا سيفعل إذا كشف له أحدهم عن جريمة ارتكبها، اختلاس أو رشوة أو سرقة؟ هل سيكتم سره كما يفعل قس الاعتراف أم سيسارع بالإبلاغ عنه؟ قضايا كثيرة ستفرض نفسها على شيخ الكشك كل يوم، بعضها طارئ وأكثرها مزمن، لذلك فنحن في حاجة إلى مشايخ من نوع خاص، غير تقليديين وغير متزمتين، يقدمون صورة عصرية للإسلام، ولا يرددون الجمل المحفوظة التي سئمنا منها.