التحرير
علاء خالد
شفيع شلبي وقفزة باتجاه «البساطة»
شفيع شلبي، من الأشخاص الذين تعلق بهم الذاكرة، يظل لهم بداخلها مكان خاص، وصورة خاصة، لها نفاذيتها عبر أكثر من جيل. ربما لارتباطهم بزمن منحهم التأثير والنفاذية، أو بسبب الطريقة التى عبَّروا بها عن أنفسهم، واختلافهم عن السائد هو الذي حفظ إكسير النفاذية فى الذاكرة الجمعية. وهنا الجدارة لأن الحياة تجربة واحدة، فالاختلاف يصبح مخاطرة لأنه استنفاد إحدى محاولات الحياة، واحتمالاتها القليلة جدا، فى التجريب. ترك شفيع شلبي أثرا فى أكثر من جيل. بالرغم من قلة البرامج التي قدمها وعدد السنوات التى ظهر فيها على الشاشة (71- 81) إلا أنه أصبح أحد ممثلي الجيل المتمرد، ليس من ناحية التأثير فقط ولكن بخصوصية فكرة التمرد نفسها. كان نموذجا للعديد من أبناء الجيل، فى بدايات السبعينيات، ولكنه نموذج محير قليلا فهو متمرد غير مسيَّس، أو له وجه مختلف فى التمرد السياسي به مسحة ذاتية، تتجسد في الصوت والشكل وطريقة ظهوره على الشاشة، وفي الملبس البسيط والشعر المنكوش والصندل والعجلة التى تصحبه فى مشاويره الرسمية وغير الرسمية. تلك الطريقة التى تتقاطع مع أناقة ملبس من كانوا يحضرون حفل أم كلثوم، أو هؤلاء الذين يقدمون نشرات الأخبار فى التليفزيون المصرى؛ ببذلات كاملة وكرافتات وافتعال، ليس كذبا بالتأكيد، في التعبير عن الذات. كأنه جاء لينتقم لجيل كامل من صورة البذلة والكرافتة وتقاليدهما البرجوازية. *** لم يكن شفيع شلبي هو المتمرد السياسي الذى يلبس بذلة كاملة أثناء اعتصام الكعكة الحجرية 72، ولا المتمرد الأدبي مثل يحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل والأبنودى، الذين يلبسون ملابس بسيطة نعم، ولكنها غاية في التقليدية. هناك صورتان ليحيي الطاهر عبد الله، مع مجموعة من الأدباء، يلبس فيهما قميصا مخططا ويقف في لقطة تذكارية مع تمثال نهضة مصر وأخرى فى إحدى الحدائق العامة ومن خلفه تمثال أيضا، لتثبيت مكانه داخل العاصمة وامتصاص جزء من هويتها الخاصة وأصالتها القومية المتمثلة في هذه التماثيل والحدائق العامة، كما يشرح بنديكت أندرسون فى كتابه "مجتمعات متخيلة". *** مع شفيع شلبي ظهر نوع من التمرد المصحوب بالبساطة، ليست البساطة التقليدية السابق ذكرها، ولكن بساطة وراءها طريقة حياة "كاجوال". إنه متمرد له فردية معينة، وهذه الفردية تجد نفسها في تلك التفاصيل الصغيرة التي تشمل الجسد وطريقة الحياة. هذه "البساطة" شقت طريقها إلى قلوب وعقول الناس والأسر المصرية، فاعتبروه واحدا منها كما يذكر أحد معجبيه فى معرض تعليقه على مقال للأستاذ صلاح عيسى* يقول عنه إنه "كان يعتبره ببساطته هذه واحدا من أفراد أسرته، سواء للبرامج التى كان يقدمها في الراديو أو التليفزيون بداية من عام 71". وربما من المرات القليلة التى تتعلق فيها الأسر وشبابها بمذيع، بجانب المذيعيتن سلوى حجازي ونجوى إبراهيم، فى الستينيات، وأيضا بجانب مسلسل "القاهرة والناس" لمحمد فاضل. كانت "البساطة"، التى هي صنو الحقيقة والواقع فى هذا المفهوم؛ تشق طريقها بكل أجنحتها سواء البرجوازية أو المتمردة لترد على الازدواج الذى خلفته هزيمة 67. تلك الهزيمة التي حولت "افتعال" الأجيال السابقة له، وطريقة حياتها؛ إلى "كذب"، فى نظر الجيل الجديد الذي يمثله شفيع شلبي. طوال عشر سنوات، عمره فى الإذاعة والتليفزيون (71- 81)، تم إلغاء العديد من البرامج له وتجميده بتعبير الأستاذ صلاح عيسى، بسبب الرقابة والتضييق عليه. وسط هذه الرقابة والتضييق بزغت مجموعة من هذه النجوم وازدهرت. خلقت هذه الرقابة والتضييق نوعا مختلفا ومتعاطفا من التلقي. التضييق نفسه كان يصنع النجاح، بوصف من يتم التضييق عليه، نجما وممنوعا وبالتالي مرغوبا، وهذه الأخيرة أسهمت فى تثبيت صور الكثيرين ومنحها المزيد من القبول في الذاكرة الجمعية. *** كان شفيع يجلس مع أفراد الأسرة على العشاء أثناء تقديمه لنشرة أخبار التاسعة الشهيرة في التليفزيون المصري، بالقميص والبنطلون والشعر المنكوش، أو وهو يقدم برنامج "من قلب الشارع المصري" الذى ذهب به إلى أسطح القطارات ليحاور المسطَّحين عليها، وإلى أهل الشارع الذين هم بلا سكن، وأيضا إلى مقالب القمامة فى قرية الخصوص ليحاور الهامشيين ومربِّي الخنازير هناك، وقدم برنامج "سينما في علب" الذى كان يكشف من خلاله عن المخفي من تراث السينما التسجيلية المصرية. أحد معجبيه يعقب على موقع جريدة "المصري اليوم" لنفس المقال السابق، ويصف شفيع شلبي بالمبشِّر، بأنه "بشَّر بالبساطة"، فهذه البساطة كانت بعيدة فى الستينيات، تحتاج لمن يبشِّر بها وسط عالم متكلف وتقليدي، نموذجي ورسمي. كانت هناك حواجز وأيديولوجيات تتكلم عن البساطة ولا تنتهجها، ونماذج وصور وتقاليد وأديان؛ كلها تقف بين الفرد والوصول إلى حقيقته وحقيقة الواقع من حوله. *** كانت "بساطة" شفيع شلبي، بساطة غير مؤدلجة وهدفا في حد ذاته وسلوكا شخصيا نابعا من تمرد ذاتي ربما له صياغة يسارية، وليست ردا على اتجاه بعينه، بل رد على "ماض". ولكن الوضع الضاغط، فى أي عصر، يختار دوما من يعبر عنه خارج أى إطار أيديولوجي، أو سياسي. ربما كانت هزيمة 67 التى حدثت سنة تخرجه في كلية الزراعة، كفيلة بأن تمنح تمرده وبساطته إطارهما السياسي. كانت الهزيمة، في حد ذاتها، هي الأيديولوجيا التى صاغت حركة جيل بأكمله تجاه الكشف عن الحقيقة، وتقريب المسافة بين الداخل والخارج. ربما لم تنجح المحاولة بشكل كامل، ولكن هناك خطوات قطعت، وبدا الهدف واضحا، وهو تقريب المسافة بين داخل الفرد وخارجه. *** هذا الدور الإشكالى الذى خلفته هزيمة 67، وهو العام نفسه الذى مات فيه والده المربي الفاضل عبد الرحمن يوسف شلبي، ناظر مدرسة مصطفى كامل، الذى أكمل بناء "بيت العائلة" من راتبه كما يذكر شفيع فى صفحته على الفيسبوك. مات الأب "كمدا" بسبب الهزيمة عن 58 عاما. الهزيمة منحت كل الناس الحق فى أن يكونوا مشاريع كبيرة متحركة، كل فرد يمكن أن يبدأ من نفسه، ليس لإصلاح نفسه فقط، ولكن لإصلاح الوطن، البلد، المجتمع. وهنا بدأت بكثافة المشاريع القومية الفردية، التى كان جمال حمدان أحد المبشرين بها. ويبدو أن الواقع المصري كان فارغا وجاءت الهزيمة لتكشف وتعمق من فراغه، ولا يجد من يملأه سواء علميا أو ثقافيا، فتم السماح بهذا "التمدد" فى الدور الشخصي، والذى لا مناص منه أمام هذا الانهيار الذى حدث بعد الهزيمة. يحكي شفيع مع صحفي فى جريدة الأخبار التقاه فجأة فى ميدان التحرير** "أنهيت تعليمي أو تخرجت في الجامعة عام الهزيمة 67. ومنذ عام الهزيمة بدأنا نسمع عن هجرة العقول المصرية اللامعة من أمثال أحمد زويل، وهو دفعتي بالمناسبة. وهجرة العقول لأنهم أدركوا حجم الهزيمة، لأننا لم نكن دولة بالمعنى المفهوم للدول الحديثة. وهنا كانت نقطة انطلاقي مع الكثيرين الذين فضلوا البقاء في مصر والعمل علي إرساء دعائم دولة حديثة، وكانت أدواتي في ذلك ما أعرفه.. مهنتي كإذاعي وتليفزيوني. كنت أعتبر نفسي مؤسسة ثقافية دون التضخيم من ذاتي". ***

وبعد تجميد شفيع فى التليفزيون إثر أحداث سبتمر 81، بدأ شفيع التأريخ للذاكرة المصرية المعاصرة، لدرجة أن يلقبه أحد معجبيه بـ"جبرتي آخر الزمان". ضياع هذه الذاكرة القومية هو ما كان السبب فى الهزيمة، فى نظره، لذا سيعيد لملمة شظاياها، لتكوين صورة جديدة لها عبر مجموعة من الأفلام الوثائقية. يقول فى أحد حواراته بعد خروجه من التليفزيون أنه اتجه لتأسيس "المركز العربي للإنتاج الوثائقي" وقام بإنتاج أربعة أفلام، جميعها تهتم بتاريخ البلد وذاكرته الحديثة: "اهتممت بالتاريخ لأنني أدركت أنه لكي نفكر في المستقبل لا بد أن نعي الماضي جيدا، فمن لا يعرف التاريخ ويحفظ ذاكرة أمته يهدر عقل الإنسانية، فالأشخاص يرحلون وتبقى صنائعه"."*** *** الملاحظة التي تطاردتي أن التليفزيون، هذا الجهاز الرقابي، والذى "يغسل" عقول الناس، أخرج الكثير من النجوم الملهمين. وكان هدفا للمواهب ولمن يريد أن يشتهر أو ينجح أو يغير شيئا فى المجتمع، ومثل كل المؤسسات الحكومية التى تسرب إليها المتمردون. فالتمرد وقتها كان مرتبطا بالعمل فى أجهزة الدولة من أجل تغييرها من الداخل أو استغلال إمكانياتها. أيضا لم يكن هناك مجال آخر للعمل المؤمم كليا من الدولة. ظلت الدولة لعقود هى التى ترعى الاختلاف والتمرد. واستمر هذا الوضع فى التليفزيون لحد التسعينيات. وربما ما أنقذ "شفيع" من هذا المصير، والاستسلام لمنظومة العمل، أنه اختار ألا يكون موظفا ثابتا فى التليفزيون، ولم يتقاض أجرا منه. ربما هذا ما جعله فى نظر نفسه حرا ويمكن أن يفك هذا الارتباط فى اى لحظة، وليس عبدا له. *** فى مقال آخر فى غاية الإمتاع يتحدث عنه الروائي سعيد الكفراوي، الذى كان صديقا له أيام الصعلكة، ويحكى عن موقف فى غاية الطرافة والدلالة: "أعرف شفيع شلبي، من قبل الميلاد تقريبا!! قابلته أول سبعينيات القرن غير السعيد الماضي، كانت الدنيا غير الدنيا، والناس تحمل بين جنوبهم آمالا لا تحصى وأحلاما من غير حد. كان يأتي أيامها مقهى ريش، حيث كنا نقيم، نحن أجيال الكتابة الجديدة الذين كانوا يشكلون حلقة الإبداع الشاب حول المؤسس نجيب محفوظ، وكان الشاعر العظيم أمل دنقل كلما رآه داخلا المقهى وهو في زهوة وقته، وشبابه، وشهرته، وبصحبته ثلاث بنات من بنات هذا الزمن، جمالا وأناقة وثقافة، وكان في كل أشكاله يستفز أمل دنقل الذي يشخط، مشيحا في وجهي: الجدع ده من دخله القهوة إحنا ناقصين!! ولم أكن أعرف يومها وأتساءل ناقصين إيه، هو احنا معانا حاجة خالص"!!**** *** أمل دنقل الشاعر الاستثنائى صاحب "المجد للشيطان معبود الرياح"، كان يغار من بساطة ووسامة ودونجوانية شفيع شلبي فى إدارة حياته العاطفية، وأيضا من البنات الجميلات الثلاث اللاتي كن يتحلقن حوله داخل مقهى ريش. وربما أدباء آخرون، لم يدلوا بعد بشهاداتهم، كان لهم الموقف نفسه من شفيع. كان شفيع وقتها أحد نجوم التليفزيون المتمردين والجاذبين لمحبة أجيال جديدة من الشباب، وأنا كنت منهم، بينما الكثيرون والكثيرات، لا يعرفون أمل دنقل. لقد حلَّق شفيع بعيدا عن الطبقة المتوسطة التى أتى منها، وأتينا منها جميعا، بتمايزات شخصية وبجرأة وبوسامة وبهذه القفزة النوعية باتجاه البساطة. كان نهاية فترة المساواة فى السبعينيات، وبداية ظهور فوارق طبقية حادة وتمايزات اجتماعية، وأيضا ظهور إمكانية الخروج عنها. حفظت هذه الغرفة الزجاجية من مقهى ريش هذا التحول والصراع بين شكلين من أشكال التمرد. *** هناك صدفة غريبة قليلا جمعتني بشفيع شلبي. فى بداية التسعينيات اتخذت من مقعد خشبى علي البحر، قبل التطوير، بجوار مطعم السرايا؛ مسكنا لي. لا أغادره بداية من المغرب حتى الفجر. أحمل معى الحقيبة القماش التى أحمل فيها الكتب والسجائر، والأقلام والأوراق، وربما بعض السندويتشات، أو باكوات البسكويت، وكل ما يحتاجه متمرد محدث. كان هذا المكان هو موعد مفتوح لأصدقائى لكى يزوروني. فى إحدى المرات، ربما لا يتذكرها، رأيت شفيع شلبي. مر عليَّ مرتين فى يومين مختلفين وأنا جالس على هذا المقعد الخشبي، ولاحظني وتوقف، وقمت لأسلم عليه وأعرِّفه بنفسي. ربما كان فى شكلي وملبسى وشعرى المنكوش شيء لافت له. دعاني وقتها لحضور نادى السينما، الذي كان يشرف عليه، والذى يعقد فى القاهرة كل ثلاثاء 366 شارع شريف. كان لا يزال يحمل بريق وصوت النجم الذى رأيته فى السبعينيات. تقاطعنا فى مرحلتين مختلفتين من حياتينا. ................................................................................................ * أين ذهب شفيع شلبي "المصري اليوم - صلاح عيسى - العدد 1742. http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=203640 ** حوار أجراه الصحفي محمود عطية، ونشر في جريدة الأخبار يوم 31 - 07 - 2011. *** حوار أجرته أميرة الشاذلي، بجريدة البيان. البوابة الإلكترونية . 9 أبريل 2012. http://www.albayan.ae/five-senses/mirrors/2012-04-09-1.1627418 **** شفيع شلبي وأيامه. سعيد الكفراوي - جريدة الوفد - البوابة الإلكترونية..

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف