شهدت الأمة حكاما عظاما بمعنى الكلمة عبر تاريخها المديد، رجال تكتب سيرتهم، وتجاربهم في الحكم بماء الذهب. رجال بلغوا من العدل بين الرعية ما لا يتصوره بشر، حتى ليظن المرء أنهم ليسوا من صنف البشر، لفرط ما بلغوه من العدل والقسط، والإعراض عن الدنيا، وعن ملذاتها. كانوا حكاما لا يرون إلا خشية الله في عباده، ادوالرفق بهم، والإقبال على الآخرة رغم ما كان بين أيديهم من النعيم، والثراء، والملك العظيم ، مما لم يبلغ غيرهم له مثيلا. فالدولة الإسلامية بلغت أيام عمر بن الخطاب، ومن بعده حفيده عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما، ما لم يبلغه حاكم آخر من سعة الملك، وكثرة المال والخراج، حتى امتلأت خزائن بيت المال. وكان عمال أمير المؤمنين يبحثون عن فقير، او محتاج، فلا يجدوا منهم أحدا. إنه بحكم العدل بين الرعية تكون هذه النتيجة، وأن نجد مجتمعا مثاليا، يحب بعضه بغضا، ليس به فقير او محتاج. إن الله وهب الأمة في هذه الأيام العظيمة الحكام الصالحين، ممن رفعوا راية الحق، وممن لم يبحثوا عن السلطة، او الملك قط، بل كانوا يسألون الله تعالى ان ينزع عنهم هذا السلطان، لأنه قيد يكبلهم، ولم يكن لهم به رغبة. فالولاية أمانة ما أعظمها، وما اشقها على أصحاب هذه القلوب الغامرة بحب الدين، وبحب الناس، ونصرة الضعيف، والشدة على الظالم، كانت لهم قلوب امتلأت بالرحمة، وايثار العدل، وخشية الظلم. كانوا حكاما يوقنون علم اليقين أن الله سوف يقضي بين الناس يوم القيامة، وأول ما يقضى من الحساب حق العباد على العباد، واشد من يحاسب في هذا الوقت العصيب الحكام والملوك، فالله سوف يحاسبهم على ما فعلوا، وهل أدوا الأمانة بحقها، وهل حكموا بالعدل بين الناس، ام ظلموا، وتجبروا، وسوف يقتص منهم بقدر ظلمهم. هكذا...كان يفكر الفاروق، وحفيده عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين، الذي لقب بذلك لأنه سار في الحكم على درب الراشدين، وبلغ العدل في حكمه أعظم مبلغ، رغم انه لم يحكم إلا سنتين. وكان عمر بن الخطاب يحدث نفسه دوما، ويشتد في لومها، وتوبيخها، رغم أنه لم يفعل ما يستحق به ذلك، لكنه كان يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله أمام العباد. حتى ان الفاروق لما ذهب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، ذهب ومعه خادمه، دون حراسة، او ضجيج كما يفعل الملوك وأصحاب السلطان. ولم يرافقه جند لحمايته، وكان معهما ناقة واحدة، يتناوب ركوبها وخادمه بالعدل. مع انه لو أراد نوقا، وخدما، وحشما لكان له ما أراد. لكن الفاروق كان ممن اعرض عن الدنيا، وزخرفها، ورضي بالكفاف في حياته حتى يلقى الله على هذه الحال. ولما جاء رسول إمبراطور الروم يسأل عن قصر أمير المؤمنين، قالوا له: إن الأمير لا قصر له، بل أشاروا إليه بأنه هو ذاك الرجل الذي ينام في ظل هذه الشجرة. وفوجىء رسول الإمبراطور بما يرى بأم عينيه، وأخذ يتساءل في عجب: هل هذا حقا خليفة المسلمين الذي يحكم أكثر بلاد الأرض في هذا الزمان، وكان يرتدي ثيابا مرقعة، ولم يكن عنده قصر فخيم ينام فيه على الحرير والديباج مثل باقي الملوك. ومن ينسى الفاروق ليلة ذهب لامرأة فقيرة الحال في بيتها، ورق لحالها، ولأبنائها، وهم يصرخون من الجوع، ولم يكن عندها طعام. ذهب الخليفة لبيت المال، وحمل الدقيق، وما تحتاج إليه المرأة على ظهره، ثم عاد إلى بيتها، واعد لها ولأبنائها طعاما بيديه الطاهرتين، وهي لا تعلم أنه الخليفة. ومن ينسى الفاروق لما أتاه قبطي يشتكي ابن أمير مصر عمرو بن العاص بأنه ضربه دون ذنب. ولما سمع منه، أمر الفاروق بإحضار عمرو وابنه، وطلب من القبطي ان يقتص من ابن الأمير، ومن أبيه ايضا. ويوما خرج عمر إلى السوق وشاهد ابلا كثيرة فسأل عن صاحبها ، فقالوا هي لابنه عبدالله بن عمر ، وكان عبدالله من الزهاد العباد. فطلب عمر ابنه ليساله من أين له هذا. فقال: إنها من تجارتي يا أبي. فقال: لولا انك ابن عمر ما كان لك مثل هذه الإبل. ثم امره ان يبيع الإبل، ويأخذ أصل ماله الذي دفعه فيها ، ويترك الباقي في بيت المال. وكان على بن أبى طالب رضي الله عنه شاهدا على ذلك، فقال لعمر: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا...إنه عدل الاسلام، عدل ليس له مثيل على وجه الأرض، ولهذا سادت الأمة باقي الأمم في أيام عزها. ومع ذلك العدل... كان عمر يبكي كلما خلى بنفسه خشية أن يظلم أحد في أيامه، ويحاسبه الله على ذلك، رغم انه لم يفعل من ذلك شيئا قط. وكان يراقب الولاة، ليعلم سيرهم في الحكم، وعدلهم بين الرعية، حتى لا يؤخذ بجريرة غيره من الولاة...ومع كل ذلك العدل، كان عمر يلوم نفسه، ويقول: بخ بخ... يا ابن الخطاب. وكان يسأل الله ان يميته فقيرا، حتى يلقى ربه على الكفاف، لا له ولا عليه...رحمك الله يا عمر ...ورحم الأمة من بعدك... واعتبروا يا أولي الألباب...