المصريون
جمال سلطان
تثبيت الدولة أم تثبيت النظام ؟!
العبارة التي خرجت من رئيس الجمهورية في اللقاء الشبابي بالاسكندرية قبل يومين والتي تحدث فيها عن ضرورة "خلق فوبيا إسقاط الدولة" عند المواطنين ، هي خطأ محض ، وزلة لسان غير مقصودة ، والمؤكد أنها التباس حدث لدى السيسي فخانه التعبير ، لأن الفوبيا مرض نفسي ، أساسه صناعة خيال غير حقيقي ووهم يرسخ الخوف الوسواسي لدى صاحبه تجاه أشياء محددة ، والمفروض أن وظيفة الدولة مكافحة الأمراض وليس زراعتها ، ولكن الأكثر دهشة في تلك القصة أن "خطأ" الرئيس وزلة لسانه تحولا إلى مشروع وطني وبرنامج عمل ؟! ، أي والله ، ونشط وزراء ومحافظون وصحف كبرى وفضائيات تتداول كيفية نشر "الفوبيا" في مصر ، وأفضل الخطط لصناعة "الفوبيا" عند المواطنين ، وتم تدشين مشروع وطني للفوبيا باسم "تثبيت الدولة" ، ولم يجرؤ أحد ، إعلامي أو وزير أو مسئول ، على أن يراجع السيسي في حكاية "الفوبيا" أو ينبهه إلى أنها زلة لسان وخطأ لا يصح أن يصدر من الرئيس لأنه يسيء إليه ، الكل ـ من فرط النفاق أو الخوف ـ راحوا يحللون عبقرية "صناعة الفوبيا" وأهمية تعميمها في مصر ، نحن نعيش كابوسا حقيقيا الآن بالفعل ، مصر تعيش حقبة ظلامية من الكوميديا السوداء التي لا تصدق ولا في الخيال .
الفكرة الأساسية التي يتحدث عنها الرئيس هي دعوته إلى "حماية" الدولة وتثبيت دعائمها ، حتى لا تنجح خطط تمزيقها على النحو الذي حدث لدول أخرى في المنطقة مثل سوريا وليبيا ، وهو هدف وطني لا شك فيه ، وينبغي أن تتضافر جهود كل أبناء مصر من أجله ، ولكن هذا "فوبيا" حقيقية في عالم الافتراض والخيال وليس في عالم الواقع ومنطق التاريخ نفسه ، فمصر حالة خاصة في المنطقة ، لا تعرف الانقسامات العرقية والتمزقات الطائفية الضخمة ، ولم يحدث أن انهارت الدولة المصرية أبدا حتى وهي في أسوأ حالاتها ، حتى عندما انهار جيشها بالكامل في يونيه 1967 ، تتغير النظم والممالك والحكومات ، وتبقى مصر ودولتها حاضرة أبدا ، وفي الوقت الحاضر لا توجد أي تهديدات وجودية لمصر "الدولة" والوطن ، أبدا لا توجد ، ولكن توجد تحديات ومعارضة مريرة للنظام السياسي بالفعل ويوجد انقسام شعبي حول السيسي نفسه ، غير أن الدولة شيء والنظام السياسي شيء آخر ، الوطن شيء والرئيس شيء آخر ، النظام يتغير ويتحول والرئيس يذهب ويأتي غيره ، ولا يعني ذلك أن الدولة انهارت أو أن الوطن سقط .
المشكلة الرئيسية في دعوة الرئيس أنها تخلط بين الأمرين ، بين الدولة والنظام ، بين الوطن والرئيس ، وبالتالي هناك محاولة لتجييش العواطف الوطنية وإمكانيات الدولة بكاملها من أجل الرئيس شخصيا وضمان استمراريته في كرسيه لسنوات أخرى مقبلة ، ومن أجل نظامه السياسي ، تحت ستار حماية الدولة ، وهنا سنكون ـ تلقائيا ـ أمام فرضية خطيرة ، وهي أن أي معارض للرئيس هو معارض للدولة ، وأي مطالب بتغيير الرئيس ونظامه دستوريا هي تهدد بانهيار الدولة ، وهذا يعني سحب جميع الحقوق الدستورية من الشعب ومن الأحزاب ومن المجتمع المدني وحتى من مؤسسات الدولة نفسها ، يصبح الكل في واحد ، مصر هي السيسي ، والسيسي هو مصر ، وهنا يكون الدستور قد سقط عمليا ، أو تبخر وأصبحت نصوصه بلا معنى .
حماية الدولة ومنع انهيارها لا يكون بقمع المعارضة وخنق الاحتجاجات ومحاصرة الأحزاب وتدمير المجتمع المدني ومنظماته القوية وسحق أي رأي آخر وتكميم الأفواه وفتح السجون والمعتقلات وبناء المزيد منها وتهميش الكفاءات وتوسيد الأمر إلى غير أهله والتسامح مع عنف أجهزة الدولة المروع مع المواطن العادي والمعارض السياسي ، هذه الإجراءات هي المهدد الحقيقي للدولة ، وإذا كنا جادين في منع انزلاق مصر إلى المخاطر التي تهددت دول أخرى ، فعلينا بالدعوة لإصلاح تلك الأخطاء التي يرتكبها النظام السياسي ، علينا الاتعاظ من تجربة بشار الأسد ومعمر القذافي ، وكلهم كان يملك جيشا جرارا وأجهزة أمنية واستخباراتية مروعة ومخيفة ومسيطرة ، ولكن كل ذلك لم يمنع من تفجر البلاد وتمزيقها وجعلها مطية للتدخلات الأجنبية من كل صوب وحدب وفضاء مفتوحا للميليشيات من كل جنس ، بفعل سياسات خاطئة وفاسدة ، كانت ترى "الزعيم" هو الوطن ، و"القائد" هو الدولة ، ثم انتهت إلى الشعار التاريخي الذي رفعه أنصار بشار الأسد "الأسد أو نحرق البلد" ، فانتهى الأمر إلى حرق سوريا بالفعل .
أعرف أن الصراحة ـ في تلك الظروف ـ موجعة ، كما أنها مكلفة ، ولكن ولاءنا لوطننا ، وإخلاصنا لدولتنا ، يحتم علينا قول كلمة الحق ولو كانت مرة أو موجعة ، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه كلام ولا يفيد ، لا قدر الله .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف