الوفد
كامل عبد الفتاح
الحرام
من مشكلاتنا الثقافية وليس الدينية فهمنا لمعنى «الحرام» والحرام من الحرمة والتحريم سواء ما نهت عنه الأديان أو الذي استقر في ضمير البشرية منذ فجر الضمير أو طفولته الأولي.. المتأمل مثلا لانتفاضة وثورة الكثير من المجتمعات الإسلامية غضباً من رسوم مسيئة لرسولنا الكريم نشرت بصحيفة ربما مجهولة في بلد أوروبي يقول بأن غلق قوات الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى وإهانة المصلين علي مرأي ومسمع من العالم سيحول المجتمعات الإسلامية الي براكين غضب علي إسرائيل ومن يدعم ويسند إسرائيل بالباطل طول الوقت.
الذي حدث غير ذلك تماما ولم يغضب أو يثور إلا من اكتوى بنار الاحتلال من أبناء الشعب الفلسطيني وسقط منهم أكثر من عشرة شهداء في ثلاثة أيام.. حتى الجامعة العربية لم تدعُ لاجتماع لوزراء الخارجية إلا يوم الخميس الماضي- أي بعد بداية الغطرسة الإسرائيلية بأكثر من أسبوع.. ما هو الحرام والجرم الأكبر؟ هل رسومات مسيئة نشرتها صحيفة مجهولة أم تدنيس أولى القبلتين وثالث الحرمين؟ هل الحرام الذي يشعل نيران الغضب في نفوس الغيورين علي دينهم أن يرتبط شاب مسلم بعلاقة مع فتاة مسيحية، أو شاب مسيحي مع فتاة مسلمة أم أن الحرام الحقيقي أن يكون هناك ملايين العاطلين من الشباب المتعلم؟
هل الحرام الذي يغضبنا ويحولنا إلي براكين غضب أن ترتدي ممثلة ملابس البحر في عمل فني أم ملايين من الفقراء العاجزين عن ستر عورات أمعائهم وأجسادهم؟ هل الحرام الذي يحول منابر دور العبادة إلي منصات غضب وكراهية أن يمارس كاتب من الكتاب حقه في التفكير في أمور دينية ودنيوية.. أم أن الحرام الحقيقي الذي يستحق أن نثور ونغضب لوجوده هو تحريم التفكير وتكفير من يفكرون علي غير هوى أهل الفتوى الدينية أو السياسية؟
نحن بحاجة إلي تفكيك ثقافتنا وإعادة تكوينها وتركيبها علي أسس من الاستنارة والوعي واحترام إنسانيتنا.. مجتمعاتنا من طول عهدها بالكبت والقهر والاستذلال منذ قرون بعيدة يبدو أن روحها ألفت الركون إلى الاختباء خلف ضعفها وأمراضها التاريخية وتحولنا جميعاً إلي دون كيشوت الذي يصارع الوهم أو إلى هاملت سجين عقده وتشتت نفسه.. وفي عصرنا الحديث أتصور أن تعدد مصادر المعرفة والمعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي قد هيأ لأفراد المجتمع أن ينعزلوا أكثر عن واقعهم وأن يتعايشوا مع بطولات وقصص وهمية يرون فيها تعويضاً عن تهميشهم من قبل السلطة ومؤسسات الدولة.. هذا العالم الافتراضي استمرأ فيه الكثيرون ممارسة حرية كاذبة تعوضهم عن الحالة القهرية التي لم يقدروا علي الفكاك منها لسبب بسيط ومنطقي أنهم لم يتمردوا عليها ولم يعتبرونها حرام، وحرام أكثر جرما من مسائل دينية يلوكون فيها الأحاديث الباطلة ويمارسون بشأنها الغضب الساذج- بعضها شخصي لا دخل لأحد به وبعضها تافه تفاهة الصامتين عن الحق.. نحن نحاسب بعضنا طوال الوقت علي مسائل إيمانية كالصيام من عدمه والصلاة من عدمها- نحاسب بعضنا البعض علي ماذا نلبس ونأكل ونشرب وماذا نشاهد وكيف نحب ولم نجتمع علي فكرة واحدة نخاطب بها الحاكم ونحدد له واجباته ونسائله علي تقصيره إن قصر واختياراته إن أساء تقديرها.. نحن أمة فقدت القدرة علي التفكير من لحظة انقطع وعيها عن جذورها وشخصيتها وتاريخها الأول.. الحرام الحقيقي ألا نحرم علي أنفسنا الهوان واستضعاف الذات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف