دينا توفيق
الطبخ بحب «العجن.. وكيمياء التوازن»
عندما أطبخ تعلو معدلات الأندورفين في دمائي وأشعر بالتهلل.. إنه إعجاز الشغف بأمر أو فعل ما تتحقق معه السعادة البالغة، لدرجة تأثيرها على مسار الهرمونات في الجسد.. أمر عجيب حقا وعلمي للغاية. فعندما أشعر بالألم، بما أنني من مرضى الروماتويد الذي يتجرأ على مفاصلي وعضلاتي بشدة في أوقات مختلفة، فقد اختبرت أيضا الشعور بالألم والتوتر.. ولكن يأتي المدد في لحظات تلهف الأندورفين لتسكين آلامي في هيئة وحي "العجن" كفرع من فروع الطبخ. أعزائي.. تلك تجارب ذاتية للغاية أسعى لطرحها، فربما تساعد البعض على تجاوز الألم أو لتنشيط وتحفيز التسكين بشكل مضاعف.. ولأنني أبحث دوما عن عمق ما وراء المواقف اكتشفت أنني ربما أيضا أحقق جزءا من إعادة صياغة تركيبتي النفسية المبنية على حب الغير، وذلك بدون مبالغات، فالمحبة كسلوك وعاطفة اكتشفت أنها من أهم مقومات عمراني الإنساني.. المحبة التي أفرزت نمط حياة استطعت فيها استدعاء كيمياء التوازن عبر أفعال معينة تخص الطبخ.. وسأحكي لكم بالتالي حكايتي مع العجن مثلا، وروحه تلك الطوافة الباثة للحنو، مع كل التفافة ليدي داخل العجين اللدن، حيث ذرات محبتي أنثرها داخله لمن سأطعمهم إياه.. تلك البيتزا الذي لا يفضل عمر ابني مهما أتى ببيتزات من أسماء شهيرة سوى التي نفخت فيها من طاقاتي.. عمر اللي مابيعجبهوش العجب يقول "مابحبش غير عجينتك".. ويشاغبني في محتوى الحشوات.. أحب الخلط الأول للمكونات بشكلها الأول من دقيق وملح وماء وخميرة.. ثم يأتي الدور على تفاعل جلدي وعضلاتي معها وتخميري لها بحرارة اليد والأنفاس...
طاهية أنا بنوستالجيات الطفولة، حيث جدتي لأمي فيفي هانم الشواربي في عزبتها بالبحيرة المتمددة برفق على ترعة الخطاطبة، والوادعة بكوم حمادة.. تلك الأرستقراطية التي عاشت حياة الريف على طريقتها بالبيت الكبير تشرف على العجن بعينيها.. فتتفنن في التأنق في أداءات الخبز.. كانت جدتي مشرفة ماهرة على الصنعة، فيخرج العيش الملدن والمرحرح ببراح روحها حلوًا لذيذًا، وأنا أمد يدي تحت الفوطة النظيفة البيضاء التي تغطي المشنة لأتناول لقمتها الساخنة، وهي قد أعدت السفرة المرتبة حسب الأصول بزخم الأجبان والمربات والمخللات المتقنة الصنع بإشرافها.. وكنت أحيانا أتسلل إلى غرف العجن والفرن الموقد بقوالح الذرة لتمنحني الست فاطنة كرة من العجين، أشكل بها عرائس وأحصنة وورودًا تعجب عين جدتي فتقرر أنني فنانة، وتمنحني المزيد من العجين مكافأة، وتخبر الجميع أنه في المشنة وعلى وجهها "عيش دينا الجميل". كنت أحب العجن كفعل إنساني مريح.. وإن كنت أعترف أنني كثيرا ما عكيت واحترق عجيني كمراهقة حمقاء أنسى الفرن أو أخرج الكعك طريًّا لم ينضج بعد.. ولكن بمرور الزمن أصبحت خبيرة في فن العجن بإنسانية.. أعرف المقادير والطرائق ليخبرني الذواقة أنني صنايعية وطباخة مافيش زيها.. أتيهُ بطهوي وعجني لأبدع فيتوازن مزاجي ويصبح العجن حافزًا أو مكافأة إن كتبت يومًا واستغرقت فخرج مقال أو فصل جميل فأسرع إلى مطبخي أدلل روحي بخبيز أجيد صنعه.. كعك أو بسكويت حلو أو حادق.. وأفرح بمزاجي المتزن حين يخرج من تحت يدي عيشًا أو خبزًا طازجًا طريًّا.. أو في أيام الرواقة أصنع عجينة أكثر تعقيدًا للحلوى أقلبها بالملاعق الخشبية وأصبها لتصير قوالب محشوة بالشوكولاتة التي سأفرد لها صفحات أحكي لكم حكايتها لاحقًا.