الأهرام
خيرى منصور
يوليو فى التقاويم العربية
قبل ان ينتقل تموز من الاسطورة الى التاريخ فى خمسينيات القرن الماضي، كان مقترنا بذكرى الثورة الفرنسية فى الرابع عشر من يوليو عام 1789، وتشاء المصادفة او ما هو ابعد منها، ان يصبح شهر يوليو فى التقاويم العربية شهر الثورات بامتياز، ثورة الرابع عشر من تموز العراقية وما اعقبها بعد عشرين عاما فى السابع عشر والثلاثين من تموز، ومن المعروف ان تموز فى الحضارة العراقية القديمة هو رمز الخصب، وتقول الاسطورة إن خنزيرا بريا بقر بطن فتى فسال دمه ليكون ينبوعا للخصب، وبالفعل كان لهذه الاسطورة فى الادب العراقى الحديث تجليات لا آخر لها، ويندر ان نجد شاعرا عراقيا اضافة الى عدد من شعراء بلاد الشام لم يستلهم هذه الاسطورة حتى لو حملت اسماء اخرى، وأدونيس وهو الاسم الذى استعاره الشاعر على احمد سعيد من الاسطورة هو رمز خصب وقيامه .

لكن التقاويم ليست فيزيائية، بل تخضع احيانا للبوصلة السياسية، فبعد ان كان العراق يحتفل بذكرى السابع عشر من تموز لأكثر من ثلاثة عقود اسدل الستار على هذه الذكرى لارتباطها بحزب ادى الاحتلال الى المطالبة باجتثاثه وبالتالى حجب كل ادبياته ومعجمه السياسى . وفى هذا الشهر الذى زاوج بين الاسطورة والتاريخ حدثت ثورة الثالث والعشرين من يوليو فى مصر، ورغم تعاقب ستة رؤساء لم يسدل الستار على هذه الذكرى لأنها اصبحت سردية وطنية بامتياز فى الوجدان القومي، وهى عنصر حميم مما يسمى بالانجليزية الناراتيف او الحكاية الوطنية التى تشكل قاسما مشتركا بين شرائح المجتمع وتتحول بمرور الوقت الى رمز تاريخى وليس مجرد حدث، ولو كانت ثورة يوليو انسانا لكان عمره الآن خمسة وستين عاما، ولم يحن موعد تقاعده، لكن اعمار الثورات والحراكات الوطنية لا تقاس بهذا الشكل، لهذا هناك من يحتفلون بذكرى ثورة عمرها اكثر من قرنين كما فى فرنسا وامريكا وغيرهما، ومجمل ما كتب عن ثورة يوليو بمختلف اللغات تحول الى تراكم يحتاج الى فرز لأن منه القمح والزؤان والشحم والورم على حد تعبير الشاعر المتنبي، فما من ثورة مثلها ظفرت بهذه الحمولة من المديح، وهذا العبء من الهجاء، وكان لكل قيس يكتب عنها ليلاه التى يغنى لها قليلا ويغنى عنها كثيرا، وهى فى الحقيقة ليست يوتوبيا كما اراد من استبدت بهم النوستالجيا نحو الماضى كما انها ليست ديستوبيا كما اراد خصومها ان يصوروها للاجيال القادمة التى سوف ترث الكثير من منجزاتها وفى مقدمتها التعليم الذى لولا يوليو لبقى حكرا على من استطاعوا اليه سبيلا .

وهناك من يتساءلون على اختلاف النوايا عن ما تبقى من يوليو بعد خمسة وستين عاما، وللاجابة وبعيدا عن الشعارات والتفكير الانفعالى فإن ما تبقى من يوليو يتعذر إحصاؤه بالارقام لأن فى مثل هذه الاحداث شحنات لا تقبل القياس بأدوات واساليب تقليدية، وهذه الشحنات نستشعرها وبوضوح وحتى القشعريرة من اناشيد واغنيات وطنية ومعارك استقلال، ولو تذكرنا العدوان الثلاثى كمثال فهو اول اختبار ميدانى ليوليو بعد اربعة اعوام من ميلادها، فكيف استطاعت ان تحشد حولها الوطن العربى كله وجدانيا على الاقل وتخرج من بين اطلال مدنها الثلاث الاسماعيلية وبورسعيد والسويس منتصرة على ثالوث عسكرى اكثر منها تسلحا ، ولم يكن العدوان الثلاثى الاختبار الوحيد الذى لم ترسب فيه مصر، فقد تعرضت بعده لما هو اقسى لكنها تماسكت واستدعت كل ما لديها وفى باطنها من احتياطى تاريخى كى لا يفتك بها فيروس التفكيك والفوضى .

ان السؤال الذى اصبح تقليديا قدر تعلقه بثورة يوليو هو هل لم يكن لعام 1952 اى بديل للتغيير غير الجيش بقيادة الضباط الاحرار ؟ وغالبا ما يحتكم اصحاب هذا السؤال الى مفهوم واحد هو ان ما تحقق من مناخات ليبرالية فى العهد الملكى من خلال الاحزاب على الاقل كان يمكن له افراز قوى تحقق التغيير، ويتناسى هؤلاء ان اقوى الاحزاب فى بلد يتحكم فيه الاقطاع لا يفوز بأصوات الناخبين الحرة، لأن الفلاحين والعمال الاشبه بالرهائن لدى الباشوات لا مجال امامهم للاختيار وغالبا ما يملى عليهم . والسؤال الآخر هو حول ميراث يوليو السياسي، والتقاليد التى حاول ارساءها وترسيخها، وهنا يتناسى من يقرأون يوليو بعين واحدة كل ما تعرضت له مصر من حصار وابتزاز خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

وليس من العسير على اى مؤرخ موضوعى ولو الى حد ما رصد ما وقعت فيه يوليو من اخطاء، لكن التعامل مع الاخطاء الناجمة عن الاجتهاد والمحاولات على انها خطايا تتطلب التوبة امر لا يبرره اى منطق بشري، خصوصا بعد ان تحول الزعيم الراحل عبد الناصر الى رمز لها، فالرجل بعد رحيله عاد ليشغل المؤرخين ويملأ الدنيا لكن بطريقة اخرى، وهناك من اعادوا انتاجه بمعزل عن السياق الذى افرزه وهو سياق فريد، فالثورة حدثت بعد اربعة اعوام فقط من اكبر كارثة قومية حلت بالعرب فى تاريخهم المعاصر .

ما تبقى من يوليو ليس برج الجزيرة او ماسبيرو او اى صرح معمارى فقط، واللامرئى بالعين المجردة من ميراث يوليو اضعاف المرئى والقابل للاحصاء، انه شحنة وطنية من صميم الاستقلال وثقافة محررة من الارتهانات الاستشراقية وتماهى المغلوب مع الغالب وفقا للرؤية الخلدونية .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف