أصدرت الخارجية الأمريكية منذ أيام تقريرها السنوى المتعلق بجهود دول العالم في مكافحة الإرهاب خاصة فى مناطق التوتر, وفى مقدمتها الشرق الأوسط, ولأن مثل هذه التقارير حمالة أوجه, أى يمكن قراءتها من أكثر من زاوية, فستظل لها دلالاتها السياسية عند تقييم مجمل إستراتيجية الولايات المتحدة فى المنطقة. وما يهمنا فى هذا المقال هو الجانب الخاص بقطر, ودول المقاطعة العربية الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين, لأنه كاشف لطبيعة الدور الأمريكي فى الأزمة, وملخصه كالآتى:
بالنسبة لقطر, فقد اعتبرها التقرير - خلافا للاتهامات الموجهة إليها بدعم وتمويل الإرهاب حققت تقدما فى وقف تمويل الأنشطة الإرهابية, مقارنة بوضعها فى تقرير 2008 بعد إقرارها لقانونين خاصين بتنظيم عمل الجمعيات الخيرية ومعاقبة الجرائم الإلكترونية, وقيامها خلال العامين الماضيين بإدانة ومحاكمة بعض الأفراد الذين ثبت تورطهم فى الأنشطة الإرهابية, وإن انتقد نظامها المالى غير الرسمى الذى يسمح لداعمى الجماعات باستغلاله (وكأن الأمر يقتصر على بعض الثغرات).
وعن السعودية, فقد بدأ بتثمين دورها فى هذا المجال داخل وخارج أراضيها, وبتعاونها الوثيق مع واشنطن فى الحرب على الإرهاب, ولكنه فى المقابل أشار إلى أن مسألة تمويل تلك الجماعات مازالت مستمرة من قِبل عدد من الكيانات والأشخاص, وهو حديث لا يخرج كثيرا عما أُثير وقت إقرار الكونجرس لقانون «جاستا» الخاص بمحاسبة المتورطين فى أحداث 11 سبتمبر.
وبنفس المنطق تحدث عن الدولتين الخليجيتين الأخريين, الإمارات والبحرين, فالأولى تفرض رقابة على مؤسساتها المالية ولكنها تبقى مركزا ماليا إقليميا ودوليا يصعب السيطرة عليه بشكل كامل, مما يُسهل عمليات نقل وتلقى الأموال للإرهابيين, والثانية تُطبق المعايير الدولية فى تجميد الأصول المالية المشبوهة وإن انتقدها فى أمور أخرى.
أما فيما يخص مصر, فقد أشاد بجهودها فى تحسين الأطر القانونية اللازمة لمحاصرة مصادر تمويل الإرهاب, وقضايا غسل الأموال المرتبطة به, إلا أنه اعتبرها مازالت «غير محصنة» بسبب ضخامة حجم الاقتصاد غير الرسمى القائم على التعاملات النقدية غير الموثقة. وفى السياق ذاته أكد التقرير إدراج «الجماعة الإسلامية» - التى يُعد الشيخ عمر عبد الرحمن الذى توفى فى السجون الأمريكية بعد إدانته فى تفجير مركز التجارة العالمى زعيمها الروحى - ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية, لكن دون أي إشارة لجماعة الإخوان المسئولة عن أغلب حوادث العنف فى مصر منذ 30 يونيو, وفى الواقع فإن موضوع الجماعة الإسلامية ليس جديدا, لأنها مُصنفة كذلك أمريكيا منذ منتصف التسعينيات.
الملاحظة الأساسية على ما جاء بالتقرير, أنه يكاد يساوى بين الجميع, فلكل دولة من الدول المشار إليها إيجابياتها وسلبياتها, يبدأ الحديث عنها بالإشادة وينتهى بكلمة «لكن» والرسالة الضمنية هنا أنه لا داعى للتصعيد ضد قطر مادامت «الثغرات» تطول الكل, وهو ما يجب التوقف عنده والرد عليه رسميا من الدول الأربع, خاصة أن السياسة الأمريكية تؤكد فعليا ما احتوى عليه تقرير وزارة الخارجية, رغم تضارب بعض التصريحات والتغريدات, والموقف من الإخوان مثال واضح, فلا البيت الأبيض أصدر قراره التنفيذى بشأن تحديد موقفه منهم ولا الكونجرس مشغول بهذه القضية, التى سبق أن طرح أحد أعضائه مشروعا لإدراجها ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية, والإرجاء فى الحالتين لا يعنى سوى التراجع.
بالإضافة إلى أن هذه السياسة إذا ما تأملناها منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة, سنجد أنها عملت حثيثا على الفصل بين مصر ودول الخليج الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين) فالحل يجب أن يكون داخل «البيت الخليجى» وزيارات وزير الخارجية ريكس تيلرسون هى فقط للدول الخليجية, وجوهر الوساطة هو المصالحة دون شروط مسبقة, أى تجزئة الأزمة لإبقائها داخل حدودها الجغرافية.
سياسة أمريكا تجاه الخليج لها خصائص ثابتة تحددها أهميته القصوى لإستراتيجيتها فى المنطقة, فهو الذى يحتوى على أكبر احتياطى عالمى من النفط والغاز, ويضم أهم قواعدها العسكرية ومراكز تزويد طائراتها وبواخرها بالوقود, وتعتبره قلب الشرق الأوسط لممراته الملاحية الحيوية, ناهيك عن اعتماده شبه الكامل عليها فى التسليح, وضخامة حجم استثماراته ومعاملاته المالية والتجارية معها, لذا يجب أن يظل تحت مظلتها وحمايتها, ولا يُسمح بتنامى نفوذ أى قوى أخرى فيه, سواء دولية مثل روسيا أو إقليمية معادية كإيران أو حتى صديقة كمصر, وتسعى لألَاّ تصل صراعاته البينية إلى حد الحروب الطاحنة, التى قد تؤدى إلى قلب موازين القوة القائمة.
انطلاقا من هذه الرؤية, فقد حددت له منذ ما يقرب من أربعة عقود سياسة أسمتها بـ»الاحتواء المزدوج» وتعنى احتواء أطراف أى صراع ينشب بين دُوله (دولتين أو أكثر) دون السماح لطرف من الأطراف أن يحقق نصرا حاسما على الآخر, وهى سياسة تقوم فى الأساس على اللعب على المتناقضات, وقد وضع قواعدها المستشرق البريطانى الشهير الأمريكى الجنسية برنارد لويس صاحب نظرية «الشرق الأوسط الكبير» بعد سقوط شاه إيران أحد أهم حلفاء واشنطن الإقليميين, وطورها مارتين إنديك السياسى والدبلوماسى والخبير فى شئون الشرق الأوسط.
كان أهم تطبيق عملى لهذه السياسة أثناء حرب الخليج الأولى أى الحرب العراقية الإيرانية التى استمرت لثمانى سنوات (1980 1988) فى عهد الرئيس رونالد ريجان, والدولتان كانتا من أشد خصوم أمريكا, فعندما اقترب العراق من تغيير مسار الحرب لصالحه أمدت الولايات المتحدة طهران سرا بقطع غيار طائراتها الأمريكية الصنع (فيما كشفت عنه الوثائق لاحقا وعُرف بفضيحة إيران كونترا) وحدث العكس عندما مالت الكفة لصالح إيران, فساعدت العراق بصورة غير مباشرة من خلال شركات عالمية على تطوير أسلحته الكيماوية. واستمرت نفس السياسة ,لإضعاف الطرفين معا مع بوش الأب ثم بيل كلينتون, الذى عين إنديك مستشاره لشئون العراق وإيران, وهكذا حتى باراك أوباما وحاليا دونالد ترامب, وخلال هذه الفترة الزمنية تمت إزاحة صدام حسين من المشهد وتشديد الضغوط على إيران, مما اضطرها لتوقيع اتفاقها النووى مع أمريكا, وهى ضغوط ستتكثف فى المرحلة الراهنة, حتى وإن أدت إلى حرب محدودة معها. وبالمناسبة نفس السياسة تُطبق على مستوى الدولة الواحدة، وموقف الولايات المتحدة من دعم الشيعة مرة والسنة مرة أخرى فى العراق يبرهن عليها, إنها باختصار سياسة «لا غالب ولا مغلوب» التى تتبعها فى الأزمة القطرية.