أميرة ملش
لا تستخدموا دماء الشهداء في الكيد السياسي
كانت لحظة رائعة، فقد اتخذ الرجل القرار فورا، لم يتراجع ولم يستأذن أحدا، لم يخش أى شىء، هو فقط استفتى قلبه، واستجاب له عقله، بعد أن رأى سيارة تأتى مسرعة نحو الارتكاز الأمنى، اتجه هو أيضا نحوها بدبابته التى كان على رأسها، ثم قفز فوقها ودهسها، ليسطر بطولة جديدة من بطولات رجال جيشنا العظيم.
البطولات كثيرة منذ قديم الأزل، وما زالت مستمرة، وتحكى صفحات التاريخ عن روايات وحكايات أغرب من الخيال عن تضحيات المصريين من أجل وطنهم.. المصريون جميعا إلا فئة ضالة قليلة، فدائيون يخرج من رحمهم الجنود والضباط والشباب الذين على أتم الاستعداد للتضحية بأرواحهم فى أى وقت يتطلب ذلك.
ولكن تظل هناك مشكلة سخيفة متعلقة بالمزايدة والابتزاز، وابتذال معان إنسانية ومصطلحات راقية.. واستخدام تضحيات الشرفاء واستغلال دمائهم لمهاجمة طرف آخر أو التقليل من شأن البعض، أو التسفيه من دور وخدمات الآخرين.
فمن المزعج بشدة أنه عندما يستشهد جنودنا بكل شجاعة وفداء يخرج من بيننا من يقلل من أهمية ما فعلوه، عندما يزايد على الشعب ويقول إنهم هم فقط الذين يستحقون الاحترام، ويسفه من بقية أطراف الشعب.
فليس من المعقول استخدام تضحياتهم واستغلال دمائهم فى الكيد السياسى، من أجل أن تفرغ شحنة غضب وحقد بداخلك تجاه فئة ما، فرغها كما تشاء ولكن ليس على حساب شهدائنا.
هذا رخص لا يليق بدمائهم الطاهرة، ففى ساحات الثورات شباب ضحوا بأنفسهم وأرواحهم ومستقبلهم من أجل مستقبلنا، وسقطوا فى ميادين وشوارع الثورة سواء ٢٥ يناير أو ٣٠ يونيو.. تخلصت مصر وشعبها من الفساد ومن الخونة بفضلهم، كانوا يحملون أرواحهم على أعناقهم وهم ليسوا جنودا أو ضباطا، وليسوا مدربين أو مؤهلين لأى مواجهة، هم أيضا يستحقون الاحترام لأنهم شهداء مصر، وفى الكنائس يسقط المصلون رجالا ونساء وأطفالا وهم مسالمون، فيغدر بهم عدو الله الجبان بخسة لا مثيل لها.. فهم كذلك يستحقون الاحترام لأنهم شهداء مصر.
كما أنه من المزعج أن يخرج من يقول «هؤلاء استشهدوا وغيرهم جالسون فى التكييف يأكلون ويشربون ويلهون» ما هذه السطحية والسذاجة؟!
كل له دوره.. الضابط والجندى هذا واجبه ودوره، والمهندس الذى يقف على السقالة ويسقط من فوقها ويموت هذا أيضا واجبه ودوره، والطبيب الذى تنتقل له العدوى من المريض هذا واجبه ودوره.. حتى عامل القمامة الذى ينقل القمامة ومن الممكن أن يصاب بفيروس ويمرض ويموت هذا أيضا واجبه ودوره.. والمزارع الذى يلدغه ثعبان.. إذن لا داعى للمزايدة، تضحيات رجالنا أكبر من ذلك.
وهناك من لا يحارب على جبهات القتال، ويجلس فى التكييف فعلًا، ولكن لما يفعله أهمية كبرى لا تقل عن غيره، المعلم والمحامى والعالم والصحفى، «وأعتقد أن هناك شهداء سقطوا من الصحفيين وهم يؤدون عملهم ولكننا لم نملأ الدنيا صراخا وعويلا بأننا نعمل ويسقط منا شهداء والنَّاس تجلس تشاهد التلفاز»، الوزير والسفير كذلك، العامل فى المصنع، والمسئول الذى يفكر ويخطط ويتخذ القرار، وغيرهم كثيرون وحتى من كنّا نطلق عليهم حزب الكنبة وكانوا يمثلون القوة الضاربة فى ثورة ٣٠ يونيو العظيمة التى أخرجت مصر من الظلام إلى النور.
كل شهداء مصر ضحوا من أجلها، كلهم أبطال، وكل من يعمل فى أرضها يستحق الاحترام، وإنما الغريب أن يقع فى مستنقع المزايدة والرخص والابتذال إعلاميون وأحيانا مسئولون!! ويجلس الإعلامى وهو يصرخ بصورة هستيرية فى وجهنا وهو يقارن بين الشهيد على الجبهة وبين الشباب على المقاهى، ما هذه المقارنة الساذجة التى تدل على ضحالة صاحبها.. لا توجد مقارنة أصلا.
ومن قال لك إن هؤلاء ليسوا على استعداد لتلبية نداء بلدهم متى يحتاجهم.. ففى مؤتمر الشباب الذى يعد من العلامات المضيئة فى هذه المرحلة، نرى شبابا يسعدون القلب.. نشعر معهم وبهم أن هناك غدًا أفضل، وأن الأمل موجود.. الحماس والإصرار فى عيونهم سبب كاف جدا لتشعر بالتفاؤل.
ليس من اللائق إذن أن نبتذل معنى الوطنية والفداء وهم ليسا احتكارا على أحد، أن نستغل دماء شهدائنا الأبرار الذين يدافعون عن الوطن ويحموننا ويضحون من أجلنا فى الكيد السياسى، أو فى الهجوم غير المبرر على فئات من الشعب- هو عار وخطيئة، وللمرة الثانية تضحياتهم ودماؤهم أكبر وأشرف من ذلك بكثير.
يكفى أن نذكر بطولاتهم فقط ليسجلها التاريخ ويعلم بها شعبهم ويفتخر بها أبناؤهم وعائلاتهم، ولتحفيز زملائهم للأخذ بثأرهم وثأر بلدهم.. دون مقارنتهم بأحد ودون المزايدة على غيرهم بدمائهم.