قد يوحي مشهد الكرة الأرضيّة وهي واقفة على رجل، معلنة الحرب على الإرهاب، أن النهاية الحاسمة قادمة لا محالة خلال شهور أو بضع سنوات حتى لو طالت قليلا، لكن هذا التصور غارق في تفاؤل لا وجود له على أرض الواقع، فالواقع تحكمه سياسات ومصالح معقدة ومتناقضة بدرجة مذهلة..ويمكن ضرب مائة دليل وربما ألف، على أن الإرهاب لن ينكمش ويتراجع إلى الكهوف القادم منها سريعا، لأن الأسباب الدولية التي تمد في عمره وتحافظ على نشاطه مازالت تعمل ، ولم تتوقف بالرغم من ارتفاع عدد الضحايا وانتقال عملياته من دولة إلى دولة، ومن هدف إلى آخر.
ولنأخذ الوضع المتأزم الحالي بين الدول العربية وقطر «دراسة حالة» عملية، ونسأل: هل المجتمع الدولي فعلا يسعي إلى قطع رأس الحية الإرهابية؟
بكل وضوح المجتمع الدولي غير جاد في محاربة الإرهاب، وأقصد بالمجتمع الدولي الولايات المتحدة وعددا من الدول الأوروبية النافذة مثل إنجلترا وفرنسا..بالقطع تعلم هذه الدول علم اليقين أن قطر هي حضن الحية الدافئ.. البيئة الغنية التى تنمو فيها وتتحرك منها، وبالرغم من هذا تتعامل مع الوضع المتأزم كما لو أنه أزمة دبلوماسية عادية بين الدول الأربع مصر والسعودية والإمارات والبحرين وإمارة قطر، ولعبت دور الوسيط المحايد جدا الذي يمهد الأرض أمام كل الأطراف لنثر بذور الحكمة والتعقل، والحياد في خلافات حادة مع راعٍ للإرهاب هو انحياز مستتر للإرهاب، ولو تتبعنا تصريحات وزراء الخارجية لهذه الدول الثلاث سنجدها تكاد تتطابق ولا تختلف إلا فى بعض الألفاظ المستخدمة، فالوزير البريطاني بوريس جوناسون قال: «نحث كل الأطراف إلى الاصطفاف خلف جهود الوساطة الكويتية، بشأن أزمة قطر، والعمل على وقف التصعيد، ونشعر بالقلق بسبب بعض الإجراءات القاسية التي اتخذتها الدول الأربع بحق شريك لنا»، و«أطالب بإجراءات فورية لتخفيف الحصار والوصول إلى حل عبر التفاوض».
أما الوزير الفرنسي جون إيف لودريان فقال: «نسعى لخفض التوتر بغية توفير بيئة مريحة للحوار».
لكن الوزير الأمريكي احتفظ بالقول الفصل : الحصار لقطر يعيق العمليات العسكرية في المنطقة، ومنها الحملة ضد تنظيم »داعش«، ولا تبحثوا عن أي نطق في هذه العبارة الشاذة، ثم اخترع حلا معطلا من أساسه مثل: وقف الحملات الإعلامية بين قطر والدول لمقاطعة لها، التحضير لمفاوضات مباشرة أساسها العودة إلى اتفاق 2014 في الرياض، (وهو الاتفاق الذي ألقت به قطر خلف ظهرها كأنه لم يكن)..الخ.
باختصار تتجاهل هذه الدول عمدا أن الإرهاب عمل مكلف جدا، ويستحيل أن يتحرك ويؤثر دون أموال ضخمة وقدر هائل من المعلومات الاستخباراتية التي لا يمكن أن تتوافر لتنظيم إرهابي مهما تكن كفاءته، وإذا فكرنا قليلا وسألنا: كيف وصل الإرهابيون إلى مطار بروكسل الدولي في مارس 2016 بالسهولة التي مكنتهم من إتمام التفجيرات؟، وكيف اخترقوا الموانع الأمنية بالرغم من صرامتها؟
قطعا هذه قدرات تتجاوز الإهاربيين، سواء كانوا أفرادا مستقلين أو مؤسسات منظمة.
وطبيعي جدا أن أول ضربة لقطع رأس الحية هو «تبريد جحرها وحرمانها من المدد»، أي رفع الدعم السياسي والمالي والعسكري واللوجستي، وهو ما تطلبه الدول العربية من قطر لتفكيك الأزمة الحالية معها.
لكن هذه الدول سارت عكس المنطق، لم تدفع قطر في سكة قطع الدعم عن المنظمات المتطرفة والجماعات الإرهابية، وتطلب تهدئة التوتر معها والتفاوض بحثا عن حل، لماذا؟
المسألة بسيطة جدا، فهذه الدول صنعت في الشرق الأوسط مفارخ إرهابية أو مزارع إنتاج كبرى ( في ليبيا وسوريا والعراق ومصر واليمن) فماذا يفعل هؤلاء الإرهابيون بعد التخرج؟، هل يجلسون في معسكراتهم « يتسلون» بالحكايات أو يتعلمون حقوق الإنسان الآخر أو يأخذون دروسا في التسامح؟
قطعا لا..
وقطعا سيستمرون على أحوالهم، خمائر عكننة للمنطقة العربية كلها، ولم أقل للشرق الأوسط، لأن هؤلاء الإرهابيين مصابون بعمي الألوان الاختياري، فلا يَرَوْن علم إسرائيل ولا أفعالها ..لأن مهمتهم في المنطقة العربية مقصورة على صناعة بيئة مؤدية حتما إلى التشرذم وانقسام دولها إلى دويلات وإمارات..
وضرب المثل بتنظيم داعش وتنشئته والسماح له بالنمو والسيطرة هو نوع من اجترار حكايات مملة، فداعش لم يبع النفط المستخرج من العراق وسوريا لكائنات من الفضاء، ولم تدخل البضائع المستوردة إلى مناطق داعش عبر الشياطين والأشباح..الخ، وحين انتهت مهمته يمكن أن يأخذ إجازة إجبارية. لكن طبيعة الإرهاب لا تتوقف عند هذا الحد، وبالضرورة تعبر الحدود إلى خارجها..وهذا ما حدث بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، فالمجاهدون ضد الاحتلال الشيوعي بحثوا عن وظيفة لهم بعد خروج الروس، فعاد بعضهم إلى أوطانهم يقاتلون داخليا، وبعضهم طار إلى أوروبا وأمريكا يعمل ما يجيده وتعلمه في تلك الحرب على أيدي الخبراء الأمريكيين في معسكرات التدريب على الحدود الباكستانية الأفغانية، واكتملت تلك الدائرة بالهجمات على مركز التجارة العالمي في نيويورك، والتي كانت أقرب إلى مشاهد سينمائية في أفلام العنف الأمريكية، التي أنتجتها هوليوود في العشرين سنة الأخيرة. نعم المسألة محيرة: كيف للغرب أن يدعم إرهابا يعاني ويلاته أحيانا؟
الإجابة سهلة أيضا، فكل سياسات لها «خسائر عرضية» لا يمكن تجنبها، ويمكن تحملها، من أجل الوصول إلى الأهداف الاستراتيجية التي ستدوم زمنا طويلا، وتعيد رسم خريطة المنطقة على الصورة المطلوبة، وقد اعترف بذلك مايكل هويدن رئيس المخابرات الأمريكية السابق في حوار مع «سي إن إن» قبل فترة: (الأوقات الحالية خاصة في الشرق الأوسط تشهد تغييرات تكتونية (أي في تحرك طبقات الارض وتغيير تضاريسها)، ما نراه هو انهيار أساسي في القانون الدولي واتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأيضا في الحدود، ويمكنني القول إن سوريا لم تعد موجودة، والعراق لم يعد موجودا ولن يعود كلاهما أبدا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة).
ولأن وظيفة الإرهاب لم تنته من مهمتها «التكتونية»، فالشيطان لن يتوقف عن الوعظ ضد الإرهاب علنا ودعمه سرا، ولا مانع من تحمل «خسائره الجانبية» لسنوات مقبلة!