جمال سلطان
دولة "على ما تفرج" .. محور الضبعة نموذجا
شبكة الطرق الجديدة من أهم الإنجازات التي قامت بها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ، وللأمانة فإن بعض هذه الطرق مثل انفراجة حقيقية في مشكلات مرورية مستعصية ، كما خدم بعضها ملايين المواطنين وسهل الحركة عليهم ، ولم أكن أحب أن "تمن" الهيئة على الشعب المصري بهذه الأعمال بتثبيت لوحات عليها من مثل "وعدنا فأوفينا" ، "كل هذا الجهد من أجل مصر" ، "الانضباط أساس النجاح" ، "القوات المسلحة قاطرة التنمية" ، وما شابه ذلك ، خاصة وأن الهيئة تتقدم للحكومة بوصفها "مقاولا" وتتقاضى الأجر كاملا على عملها ، كأي مقاول ، وبعضه هذه الطرق التي قامت بتطويرها أخذت حق استثمارها منفردة لمدد طويلة بما يشمل إنشاء محطات وقود أو محلات أو مطاعم أو نقاط تحصيل رسوم مرورية فضلا عن احتكار كافة الحقوق الإعلانية بطول الطريق ، الجهد مشكور قطعا ، ولكن أسلوب "المن" ليس حكيما ، فضلا عن أن الجدل مشروع حول مساحة الشراكة الضرورية للقطاع الخاص في تلك الأعمال ، لأنه القطاع الذي يوفر فرص عمل لملايين المواطنين .
غير أن بعض تلك المشروعات الجديدة تستغرب من منطق "الأولوية" التي فرضتها على صاحب القرار ، خاصة وأنها مشروعات ضخمة وتكلفت مليارات الجنيهات ، في وقت تعاني فيه الدولة من ضيق ذات اليد ، وتعطل مشروعات أخرى ضاغطة على أعصاب الناس وحياتهم ، ومن هذه المشروعات الغريبة محور الضبعة روض الفرج ، الذي تم تشغيله العام الماضي ، وهو طريق سريع من عدة حارات مرورية يربط بين نهر النيل تقريبا بالعاصمة وبين مدينة الضبعة على ساحل البحر المتوسط شمالا ، وقد قيل أن هذا المشروع يختصر المسافة إلى مرسى مطروح ويوفر الوقت والطاقة ، وهو كلام غير صحيح أبدا ، وفيه مبالغات كبيرة ، والطريق يصل طوله من القاهرة إلى الضبعة حوالي ثلاثمائة وأربعين كيلومتر ، ومن الضبعة إلى مطروح حوالي مائة وعشرين كيلومتر آخرين ، أي أن المسافة الإجمالية لمستخدميه من القاهرة إلى مرسى مطروح تصل لحوالي أربعمائة وستين كيلومتر ، وهي تقريبا نفس المسافة التي يقطعها المسافر في الطريق الحر السريع باستخدام طريق القاهرة الاسكندرية الصحراوي ومن منتصفه تقريبا إلى محور وادي النطرون العلمين وهو طريق جيد للغاية ، وإجمالي المسافات فيه وصولا إلى الساحل الشمالي إلى مطروح تصل إلى أربعمائة وخمسين كيلومتر ، وهنا يكون السؤال مشروعا عن مبررات إنفاق هذه المليارات الضخمة من الجنيهات على محور الضبعة روض الفرج ، في حين أنه لم يضف أي شيء على الإطلاق للمواطنين .
لم أتوصل إلى أي دراسة جدوى منشورة حول هذا المشروع الضخم ، ولا أعرف أي قراءة اقتصادية للعائد من استثمار مليارات الجنيهات فيه واقتطاعها من "لحم الحي" كما يقال ، خاصة وأن من يمشي في الدلتا أو صعيد مصر يفاجأ بمآسي من حالة الطرق وبعضها غير موجود أساسا كطريق ممهد "مسفلت" ، والمبالغ التي صرفت على محور الضبعة الضخم كانت كافية لإحداث طفرة في حياة الناس وحركتهم ومصالحهم في مدن كثيرة ، بعضها لا يحتاج أكثر من ثلاثين أو أربعين كيلومتر من الطرق الممهدة .
محور الضبعة ، أكثر من ثلاثمائة كيلومتر ، لا يوجد فيه أي محطات للتزود بالوقود ، سوى محطة في أوله ومحطتان في نهايته ، وإذا نفذ وقود مستخدمه لأي سبب فلن يستطيع أن يستنجد بأي جهة ، لأن خدمات الاتصالات في الطريق غير موجودة ، لأن شبكات الهاتف المحمول لا تعمل هناك ، باستثناء أجزاء صغيرة في أوله وقرب نهايته ، وهذه مصيبة أخرى ، لأن مسافة طويلة مثل هذه ، أكثر من ثلاثمائة كليومتر ، ولا يوجد فيها أي وسيلة اتصال هي كارثة حقيقية.
المحور الجديد من أوله إلى آخره لا يوجد به وحدة إسعاف واحدة ، ولا سيارة إنقاذ واحدة ، ثلاثمائة كليومتر لا يوجد بها وحدة إسعاف ، كما لا يوجد أي مظهر للمرور ، لا يوجد أي نقطة للمرور فيه من أوله لآخره ، وكذلك لا يوجد أي متابعة أمنية أو نقاط حماية ، من أوله إلى آخره .
من الذي اقترح هذا المحور ، ومن هي الجهة التي قدمت دراسات الجدوى له ، وعلى أي أساس صدر القرار بمنحه الأولوية على كافة مشاكل الطرق في مصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، لا أعرف ، سوى أننا أمام نموذج آخر ، تفريعة أخرى ، لإهدار المال العام ، بدون أي جدوى أو أولوية ، وفي دولة تقول أنها فقيرة قوي قوي قوي !