خيرية البشلاوى
رنات .. سنحارب علي الشواطئ
ذلك هو العنوان الذي أطلقه البريطانيون علي الخطبة التي ألقاها ونستون تشرشل. أمام مجلس العموم البريطاني في المملكة المتحدة يوم 4 يونيه 1940. إبان عملية "الإجلاء" المحتوم عن شواطئ "دنكرك" في شمال فرنسا بهدف إنقاذ حياة 400 ألف بريطاني من الموت أو الأسر علي أيدي القوات النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.
إنها الخطبة أيضاً التي اختار بعض مقاطعها المخرج كريستوفر نولان كخلفية لأجزاء من فيلمه المعروض حالياً "دنكرك".
وتعتبر الثانية من ثلاثة خطابات ألقاها رئيس وزراء بريطانيا أثناء معركة فرنسا "دنكرك".
الخطبة الأولي بعنوان "الدم والكدح والدموع والعرق" وقد ألقاها يوم 13 مايو 1940. والثانية بعنوان "هذه أجمل ساعة لهم" وقد ألقاها يوم 18 يونيه بعد أن تحققت عملية "الإجلاء" وإنقاذ ما يقرب من 300 ألف جندي.
كانت وقائع الحرب قد شهدت تطورات دراماتيكية إبان تلك الأسابيع الخمسة.. وبالرغم من تشابه موضوعات الخطابات الثلاثة عموماً. إلا أن كل خطبة كانت توجه في إطار سياق عسكري ودبلوماسي مختلف.
في هذه الخطبة الثانية كان تشرشل يصف كارثة عسكرية وشيكة من دون أن يشكك في إمكانيات نصر محتمل. وكان عليه أن يعد مستمعيه في الداخل إلي احتمالات هزيمة فرنسا. محذراً من ذلك. وكان يرغب في التمسك بالهدف الرئيسي مهما كان الطريق صعباً وطويلاً.
وتشرشل كان قد تولي رئاسة الوزراء في 10 مايو. أي بعد نشوب الحرب بثمانية أشهر. وقد فعل ذلك باعتباره رئيساً لحكومة "التحالف" ولم يتحدث وقتئذ إلا عن الموقف العسكري من فرنسا و"الأراضي الواطئة" مؤكداً بأنه ليس لديه ما يقوله لهؤلاء الذين انضموا للحكومة سوي "الدم والكدح والدموع والعرق".
وفي بريطانيا "العظمي". أو التي كانت عظمي.. يعتبر الموت البطولي المشرف ضمن الغذاء المعنوي اليومي. إنه يمثل مناسبة للتذكير بما جري وما أنجزته بريطانيا. وذلك من خلال عرض الأفلام الحربية علي قنوات هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي" ومنها فيلم "الجبهة الأمامية" "Local Front" وفيلم "دنكرك" الذي أخرجه المخرج البريطاني ليزلي نورمان "1958" ومثل العمل المعروض الآن "دنكرك" الذي يحقق إيرادات عالية منذ أيام قليلة من عرضه بلندن. والمخرج من مواليد لندن لأم أمريكية وأب بريطاني. وفيلمه هذا يشيع مشاعر الوطنية ويوقظ الحنين لأيام الانتصارات الكبيرة. ويفجر الدموع ويلوح بالتحية للجنود التي شاركت. وعادت منتصرة. أو سقطت علي رمال الشواطئ. أو فوق ساحات الحروب.
وتعتبر زيارة "دنكرك" أشبه بالحج إلي حرم مقدس. ففوق رمالها سقط الآلاف من الجنود.
وفي هذا السياق ذاته دأبت الإذاعة البريطانية تبث المسلسل الإذاعي "الجزيرة المقدسة" "sceptred island" عن كتاب للمؤرخ البريطاني كريستوفر لي. ويتناول قصة بريطانيا وتاريخها المجيد. وقد بدأت إذاعته عام .1995
وعنوان المسلسل مستوحي من خطبة عصماء للملك ريتشار الثاني. في مسرحية شكسبير. التي تحمل نفس العنوان. والذي لعب دوره ريتشارد بيرتون. وبصوته وأدائه ردد كلمات الملك التي صارت بدورها الوصف المبجل للمملكة المتحدة. بريطانيا:
تاج الملوك الملكي هذا.
وهذه الأرض العظيمة ذات السيادة.
هذه القلعة الحصينة التي شيدتها الطبيعة لنفسها. لتصد العدوي وأيادي الحرب..
وهذه الذرية السعيدة من الرجال. وهذا العالم الصغير. وهذه الجوهرة في بحر من الفضة.
إلي آخر الخطبة الرنانة. التي ألفها شكسبير. والتي من شأنها أن تشعل حماس شعب بريطانيا. وتفعل مفعول السحر وتملأهم بمشاعر التفوق "العنصري".
وأقول: تلك هي القوة الناعمة بحق. وهؤلاء الفنانون الوطنيون يمدون بأعمالهم الفنية الجيدة. غذاءً يومياً لشعوبهم.
ولا يتسع المجال هنا لذكر عشرات الأعمال الفنية العظيمة التي تسمو بالروح الوطنية. وتنطوي علي رسائل تكرس الإحساس بالشموخ والاعتزاز بالذات.. وأستطيع شخصياً أن أزعم أن معظم إنتاج هوليوود يعتبر دعاية قوية ومؤثرة للولايات المتحدة الأمريكية. ومنها أعمال حربية بمثابة روائع. وتمجيد مباشر للجيش الأمريكي. وجنرالات وزارة الدفاع. وذلك رغم الهزائم التي مني بها في فيتنام وكوريا والعراق.. إلخ.. لكنها أفلام تعكس في نهاية المطاف الإمكانيات التكنولوجية والتقنية الإبداعية للدولة. ناهيك عن الإمكانيات العسكرية.
إنها الطاقة الإيجابية التي تمنح الجمهور الأمل والثقة والبهجة والترفيه الداعم لمعنويات الشعوب التي تنتجها.