جمال سلطان
المهزوز هو الذي يحتاج إلى تثبيت !
في زمن القذافي ، حيث كانت تكثر الغرائب في كلماته ودعواته ، شاع لدى أهلنا في ليبيا عبارة "من ليبيا يأتي الجديد" ، حيث كانت خطب "الأخ القائد" وتوجيهاته تحمل أفكارا ودعوات لم يسبق لدول العالم مواجهتها أو معرفتها من قبل ، مرتجلة وغريبة بالفعل ومثيرة للدهشة ، ومع ذلك كانت صحف "الأخ القائد" تتبارى في تأكيد عبقرية تلك الدعوة وأسرار توجيهاته التي تخفى على الكثيرين ، غير أن تلك الصحف التي كانت توجهها استخبارات القذافي ومؤسساته الأمنية ، مثل صحيفة الجماهيرية ، وصحيفة "الزحف الأخضر" لم تكن تجد من يشتريها ، على الرغم أنه فرغ لها سوق الصحافة وحجب بقية الصحف العربية إلا القليل مما كان قد اشتراه أو اشترى صاحبه واستأجره للترويج لعبقريته .
لا أحب أن نعيد ـ في مصر ـ تكرار تلك التجربة البائسة ، فمصر أكبر من ذلك وتجربتها السياسية والحضارية أكبر من ذلك ، كما أن المنطقة عاشت ربيعا ثوريا أسقط أوراق التوت عن كثير من الأنظمة ، وكشف عن أشواق الشعوب للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ، غير أني لا أستطيع أن أدفع عن تفكيري تلك المقارنة مع ما يحدث الآن في حكاية "تثبيت الدولة" ، وهي دعوة بالغة الغرابة ، ويصعب أن تجد مثيلا لها في دول العالم الآن ، كما أن "الزفة" الإعلامية التي صاحبتها مهينة للإعلام المصري ، وتضعه في نفس المستوى الذي كانت تشغله صحيفة "الزحف الأخضر" الليبية أيام "الأخ القائد" .
الحديث عن ضرورة "تثبيت الدولة" في مصر هو حديث مهين لتاريخ مصر ومكانتها ، كما أنه مهين لشعبها ، فلم تكن الدولة المصرية مهتزة في أي وقت من تاريخها الحديث ولا القديم ، تهتز حكومات أو نظم سياسية وقد ترحل ، لكن مصر الدولة والشعب والوطن والوجود تبقى حية وراسخة رسوخ الجبال ، والحديث عن "تثبيت الدولة" هو حديث يفترض أنها مهتزة ، لأن البديهي أن الذي يحتاج إلى التثبيت هو المهزوز ، وهذا كلام يضر كثيرا بالوطن ومصالحه واستقراره وأمنه القومي كذلك .
إعطاء الانطباع بأن الدولة مهتزة وتحتاج إلى تثبيت يضعف الثقة فيها ، ويفرض التردد والخوف على أي مستثمر كان يفكر في الحضور بأمواله إلى مصر ليضعها في "بيئة آمنة وثابتة ومستقرة" ، فإذا وجد أهل البلاد يبحثون عن "تثبيت" دولتهم ، فما الذي يجعله يغامر ، ولماذا لا ينتظر حتى يرى جهود "التثبيت" وقد نجحت أو أثمرت وأعطت الانطباع بالاستقرار والأمان ، والأمر كذلك أيضا في الحديث عن مرفق السياحة ، لأن الكلام الذي يعطي الانطباع عن "اهتزاز" الدولة ، وحاجتها إلى "التثبيت" يخيف أي سائح ، ويجعله يتردد ألف مرة قبل المغامرة بالقدوم إلى مصر ، السائح يبحث عن البهجة والاسترخاء والأمان والثقة التامة في أجهزة ومؤسسات البلاد التي يزورها ، فما الذي يدعوه إلى المخاطرة بحياته وأمواله في بلاد "مهتزة" ويبحث أهلها ومؤسساتها وحكومتها عن كيفية "تثبيتها" ، هذا بالإضافة إلى أن الحديث عن الحاجة إلى "تثبيت" الدولة يعطي إشارات سلبية للقوى الإقليمية والدولية المتربصة بمصر ، كما أنه يولد الاستهتار بمصر ومصالحها خاصة في محيط مشتبك وتتناقض فيه المصالح الحيوية بل والوجودية ، على النحو الذي يحدث في مجرى النيل على سبيل المثال .
الدلالة الوحيدة التي نخرج بها من الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي "لتثبيت الدولة" هي إدراكنا أن الارتباك ما زال مهيمنا على صناعة القرار ، والرؤية غير واضحة ، والخطوات قلقة ، واليقين بالمستقبل السياسي والاقتصادي والأمني مهتز ، وأن هناك ما يربك القيادة بقوة ، على الرغم من السيطرة الأمنية والقبضة الحديدية التي تحاصر أي نشاط سياسي شعبي أو خارج نطاق سيطرة الأجهزة ، هناك ما يقلق السيسي بقوة ، وهناك ما يربكه وهناك ما يضعف ثقته بالمستقبل ، هل هو قلقه من انتخابات 2018 ، ورغبته في قطع الطريق على أي "مغامر" يملك أرضية شعبية أو يملك فرصة ، خاصة وأن بعض هؤلاء "المغامرين" يحظون برعاية وحماية من قوى إقليمية يعمل لها السيسي ألف حساب .
في كل الأحوال ، وأيا كانت التفسيرات لتلك الدعوة الغريبة ، إلا أن مشهد الإعلام المصري والحكومة ومؤسساتها وهي تهرول للاستجابة لنداءات الرئيس وتوجيهاته فيها هو مشهد مزري ، أساء لمصر كثيرا ، وأعطى رسالة شديدة السلبية للخارج عن أحوالها .