الجمهورية
على هاشم
قبل أن تحاسبوا الخارج علي التدخل في قضائنا.. حاسبوا بني جلدتنا..!!
* أكثر ما نفتقده اليوم في مصر هو التمييز الواضح بين الهوي السياسي والقيم الإنسانية والأخلاقية وموضوعية النقد .. فثمة خلط واضح في الحكم علي المواقف والأشخاص من منطلق الغرض والمصالح الضيقة أو تصفية الحسابات وهو ما يفضي إلي شيطنة الأخر وإقصائه والرغبة في إبادته وقد ساعد علي ذلك أجواء الاستقطاب والتعبئة الإعلامية التي صاحبت ثورة يناير حتي صارت القاعدة هي تغليب الهوي الشخصي والتوجه السياسي وهو ما أدي لإهدار القيم الأخلاقية وأدب الاختلاف علي أرضية المواطنة والمصلحة الوطنية.
* حدث ذلك في مواقف عديدة وليس بعيداً عنها ما جري إثر اختيار المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة وزيراً للعدل.. فثمة نفر من المعارضة أثاروا غباراً كثيفاً حول هذا الاختيار. مبررين ذلك الهجوم بما صرح به الزند من آراء أو ما تبناه من مواقف سابقة رغم انحياز الرجل لثورة 30 يونيو ووقوفه في وجه طوفان الإخوان واستبدادهم أيام حكمهم للبلاد .متهمين الزند ب"الفلولية" أو الانتماء لنظام مبارك.
والسؤال لهذا النفر من المعارضة الذين يعارضون لأجل المعارضة وتسجيل المواقف وليس للتقويم وإصلاح القصور أو علاج السلبيات.. هل كل من عمل في نظام مبارك يعد من الفلول..؟!
* أحد الكتاب الذين حملوا علي اختيار الزند وزيراً للعدل هجومه بأنه أحد رموز النظام القديم. وأنه لم يكن ضمن ما عرف ب"تيار الاستقلال" أيامها بل كان ضد هذا التيار.. ولم يقل لنا الكاتب الهمام ألم يكن القضاة كلهم استقلال أو غير استقلال يعملون تحت مظلة السلطة القضائية إحدي سلطات الدولة أيام مبارك والإخوان وحتي اليوم.. المدهش أن صاحب الهجوم كان عضواً بلجنة سياسات الحزب الوطني المنحل عرين النظام القديم والمنظر السياسي لنظام مبارك الذي قام بتعيين كاتبنا عضوًا بمجلس الشوري.. ولا يغير من الأمر شيئاً استقالة الرجل أياما كانت أسباب تلك الاستقالة ودوافعها.. وحتي لو تحول لخندق المعارضة "المستأنسة" فهي في النهاية جزء من الديكور السياسي لنظام مبارك.. شاءت أم أبت!!
* فهل ينسي التاريخ ما قدمه الزند ورفاقه للعدالة ورجالها وللسلطة القضائية واستقلالها في مواجهة نظام الإخوان الذي انتابته حمي الانتقام من القضاء الذي فشلوا في تسييسه فسارعوا يعدون العدة لذبحه وتصفية خيرة كوادره بقانون "ذبح القضاة" الذي استهدف خفض سن معاشهم للستين لاستبعاد آلاف القضاة الشرفاء من الشيوخ الأجلاء تمهيداً لإحلال ذوي الولاءات والميول الإخوانية مكانهم في "أخونة" واضحة لمرفق العدالة لضمان السيطرة والهيمنة.
* رفض الزند ورفاقه "الإعلان الدستوري" المشئوم الذي أصدره المعزول مرسي. كما رفضوا حصار المحاكم وعلي رأسها الدستورية العليا وانتهاك محراب العدالة وترهيب القضاة. واتهامهم بعرقلة النظام والانضمام للدولة العميقة وتسييس الأحكام .. بينما سقطت الأقنعة عن وجوه كنا نظنهم مدافعين عن استقلال القضاء أيام مبارك وهوت شعاراتهم الزائفة حين انتقلوا لخندق مرسي وجماعته فور وصولهم للحكم . وأعلنوا انحيازهم للعشيرة وتخليهم عن القضاة أمثال الأخوين مكي نائب المعزول ووزير عدله وحسام الغرياني رئيس لجنة دستور الإخوان.. بينما انتقل لخندق مقاومة الإخوان السواد الأعظم من القضاة وفي مقدمتهم المستشار الزند الذي تعرض لتهديدات وصلت لحد محاولة اغتياله لكنه لم يأبه ومضي ورفاقه والملايين من أبناء الشعب المصري يكتبون كلمة النهاية لحكم الإخوان.
* هكذا أظهرت المعارك معادن الرجال وأسهم القضاة بتماسكهم في إسقاط مشروع الأخونة ومخططات الفوضي التي أريد بها تدمير البلاد وتمزيق العباد.. ومن رحم المعارضة الوطنية التي ضمت أطيافًا واسعة من المثقفين والقضاة والإعلاميين وبسطاء الناس ولدت ثورة 30 يونيو أو الموجة الثانية لثورة يناير ومن ينكر دور القضاة وفيهم المستشار الزند فهو جاحد أصابه العمي.
* وفي المقابل لن ينسي التاريخ ولن يغفر للمفرطين في حق العدالة من أبنائها الذين شاركوا بصمتهم المريب في إهانة القضاء والتدخل السافر في شئونهم حين أريد فرض قانون جائر للسلطة القضائية عليهم.. تماماً كما ضرب أنصار المعزول حصاراً علي الدستورية العليا في سابقة هي الأولي فلم يتمعر وجه أرباب الاستقلال إنكاراً لإهانة العدالة ولا غضباً بما فعل الإخوان وأشياعهم بل باركوا خطوات المعزول بدءاً من تعيين نائب عام خصوصي مروراً بالتشكيك في أحكام القضاء واتهام القضاة بمساندة الدولة العميقة تارة و"الفلولية" تارة أخري دون أن يفعل الوزيران مكي وسليمان أحدهما أو كلاهما شيئاً لرد هذا العدوان الإخواني الغاشم بل باركا خطوات المعزول بالصمت حيناً والتبرير حيناً آخر.
* أما من يزعم بأن تعيين الزند وزيرًا يمثل ضربة لثورة يناير فلا أدري إلام استند في زعمه هذا . وحتي لو كان للرجل تحفظاته علي بعض ما رافق الثورة من أحداث أو شخوص محسوبين عليها وجهت إليهم اتهامات بالعمالة وإثارة الفوضي.. فقد أبلي الزند بلاء حسناً في موجتها الثانية في 30 يونيو بما لا يدع مجالاً للشك بأنه ثوري حتي النخاع وربما كانت ثوريته أفعالاً أثمرت نتائج إيجابية في النهاية بزوال حكم الإخوان.. وليس كل من عمل في زمن مبارك أو تولي منصباً يحسب علي النظام القديم فثمة فارق هائل بين أن تؤدي واجبك كموظف في الدولة وبين أن تكون ركناً في زمرة الحكم وأداة من أدواته الفاسدة.. وهو ما يجعل الزند في رأيي رجلاً من معسكر الثورة تولي منصباً هو جدير به وإن جاء متأخراً.. لكن أن يأتي متأخراً خير من ألا يأتي أبداً..!!
* لقد بات إرهاب القضاة تارة باستهدافهم وتصفيتهم كما حدث مع القضاة في شمال سيناء . وتارة أخري بالتشكيك في أحكامهم في الداخل والخارج وتارة ثالثة بإثارة الغبار حولهم وأخذهم بالشبهات أو تصفية الحسابات.. وهي ظاهرة يتوجع لها ضمير مصر ويئن منها قلب العدالة حتي لا يكاد يمر حكم قضائي دون تعليق أو تشكيك مدفوع بنوايا خبيثة أو اتهام بالتسييس مثلما حدث أخيراً حين جري إحالة أوراق مرسي وبديع وإخوانهما إلي المفتي في قضيتي التخابر واقتحام السجون.. وليت من يشككون في أحكام القضاء من عامة الناس بل هم نفر مغرضون من نخبتنا الإعلامية والسياسية الذين يقدمون ذريعة قوية لتدخل منظمات ودول أجنبية في أخص شئوننا وقدس أقداسنا وترويج صورة مغلوطة ومشوهة عن مصر في الخارج من قبيل أن وراء تلك الأحكام أبعاداً سياسية رغم نصاعة الأدلة وثبوت الاتهامات في حق المجرمين لكنه التطاول والتأثير في مجريات العدالة الذي لا يحدث إلا في مصر ليس من الإخوان فحسب بل من قوي سياسية وحقوقيين وإعلاميين يفترض فيهم الحصافة وبعد النظر ومناصرة دولة القانون والعدالة.. فكيف يطالب حمدين صباحي الذي يصف نفسه ب"المناضل" بعدم إعدام الإخوان ويشاركه في ذلك عبد الغفار شكر نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وزميله جورج إسحاق اللذان طالبا بإعداد قانون يوقف تنفيذ أحكام الإعدام بحق الإخوان لثلاث سنوات وهو نفس ما طالبت به حركة 6 أبريل المحظورة وما يسمي ب"حركة بداية" التي ولدت ميتة أصلاً لكونها أحد وجوه 6 أبريل والإخوان وقد لفظها الشارع قبل أن تبدأ.
* وليس بمستغرب أن تأتي مواقف هؤلاء الرافضين إعدام الإخوان بعد أن قالت أمريكا كلمتها اعتراضاً علي أحكام القضاء بإعدام مرسي ونسيت الدولة العظمي أنها لا تزال تطبق أحكام الإعدام ضد مواطنيها وقد زادت علي ذلك بالردة الحضارية والنكوص عن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان بالتمييز العنصري البغيض في حق السود من مواطنيها.. فكيف تنهي عن خلق وتأتي بأفظع منه وأشد إيلاماً.
* وهل يمكن للتاريخ أن ينسي ما فعله الإخوان ومن وراءهم بالعدالة وكيف يطلبون تعطيل عقوبة الإعدام بحق من تثبت في حقهم جرائم بحق الوطن والمواطنين. جرائم سوف يقف أمامها التاريخ مشمئزاً نافراً .يسجل بالخزي والعار والشنار ما اقترفه هؤلاء في حق مصر وشعبها والإنسانية كلها في إصرار عجيب.. فكيف يمكن افتراض البراءة في هؤلاء.. وهل من الديمقراطية والعدالة تعطيل دولة القانون وإلغاء حق القصاص.. وهل التفريط في الدماء شفقة أو إنفاذ الحق قسوة.. وكيف يتحقق العدل وحق التقاضي معطل.. وهل من المدنية والحرية إفلات الجناة من العقاب أيا ما كانوا.. هل يؤمن صباحي وإسحاق وشكر بدولة القانون وهيبة الدولة وسلطانها وسيادتها.. أم أنه الهوي والغرض والمصالح الضيقة.. وماذا تحقق من مبادئ ثورتي يناير و30 يونيو.. هل وقف تنفيذ الأحكام القضائية يحقق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. وهل بعد غياب العدل دولة.. وهل ثمة جرم أكثر بشاعة من امتهان سيادة القانون وهيبة القضاء مثلما فعل الإخوان في عهد المعزول وهو ما يفوق جرائمهم الأخري كالاعتداء علي المتظاهرين أمام الاتحادية الذي أفضي إلي سفك الدماء التي هي أشد حرمة عند الله من هتك أستار الكعبة. بخلاف الهروب من سجن وادي النطرون المقترن بالتخابر مع حماس وقطر واقتحام السجون وما ترتب عليه من هروب آلاف السجناء وإشاعة الفوضي والرعب في نفوس المواطنين وتعريض البلاد للفوضي واستباحة الأمن القومي.
* لم يعرف التاريخ حاكماً جاهر القضاء بالعدالة وامتهن محراب العدالة مثلما فعل المعزول مرسي وإخوانه.. وهو ما عجل بنهاية دولتهم.. واليوم تنعقد الآمال علي الوزير الجديد المستشار الزند ليمهد الأرض أمام إصدار حزمة تشريعات تحقق مقاصد الدستور وتحدث التغيير والإصلاح المنشود بما يحقق عدالة ناجزة وينقي ترسانة القوانين من الشوائب والتناقض والارتباك وهو ما يتطلب البدء بتعديل بعض مواد قانون العقوبات والمرافعات والإجراءات المدنية والجنائية بما يتسق وروح الشرائع وإيقاع العصر ومستجداته. وميكنة جميع مراحل التقاضي لتسريع وتيرة العمل وتحديث أبنية المحاكم وإنشاء شرطة قضائية تختص بتأمين القضاة وأكاديمية القضاء الجديدة للتدريب والإعداد الجيد لقانون السلطة القضائية.. وما لم يتحقق ذلك.
يظل الحديث عن أي عدالة ناجزة أو إصلاح تشريعي حرثاً في البحر ومن ثم فلا دولة ديمقراطية دون استقلال العدالة وسيادة القانون وتعليم متطور وصحة عفية وتجديد في الفكر والثقافة وثورة ضد العادات والتقاليد البالية والقيم الاستهلاكية.. إصلاح القضاء فريضة واستقلاله فرض عين والفصل بين السلطات أهم سمات الديمقراطية.. فهل نبدأ بإصلاح القضاء حتي يطمئن كل منا إلي عدالة التقاضي وصون الحقوق والحريات.. والأهم الحفاظ علي الحق في الحياة؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف