الوطن
د. محمود خليل
صناعة الفشل (1)
مسألة فشل أو محاولة إفشال أى دولة موضوع ضخم للغاية، جوهر ضخامته أنه لا يرتبط بلحظة حاضرة قدر ما يرتبط بمجمل مراحل تاريخية مرت بها الدولة، ويتعلق أيضاً بتعقد الأسباب التى تؤدى إلى الفشل وانغراسها فى أخاديد العقل. الفشل الإنسانى يبدأ دائماً من العقل، بما يختزنه من أفكار، وبما اعتاد عليه من أساليب فى التفكير.

فى البدء كانت مصر أنجح دولة فى العالم.. التاريخ يقول إن هذا البلد كان أنجح مصر بين أمصار الله منذ آلاف السنين، ولست بحاجة إلى تكرار ما تعرفه عن الدولة المصرية الفرعونية التى شكلت قاطرة حضارية شدّت العالم بأسره إلى الأمام قروناً عدداً. ظل هذا البلد كذلك حتى دخله الرومان وعرف المسيحية وآمن بها ما يقرب من 259 عاماً، بعدها (نحو سنة 642 م)، كان الفتح العربى، ودخلت مصر حظيرة الإسلام على يد عمرو بن العاص. لم يهدم العرب الفاتحون تمثالاً ولا مسلة ولا معبداً ولا هرماً، لكنهم هدموا ما هو أخطر وأهم، هدموا علاقة المجايلين لدخولهم مصر والأجيال التى أعقبتهم بأجيال الآباء والأجداد العظام وما لديهم من موروث عن مصر الناجحة فى العصر الفرعونى، أو قل أحدث العرب عند دخولهم مصر نوعاً من القطيعة الحضارية مع الدولة الفرعونية التى تأسست على ثقافة نجاح، وبدأنا الدخول فى مراحل تاريخية نتأرجح فيها بين خط مستقيم على الفشل تقطعه فى بعض المراحل نقاط مضيئة للنجاح، لكنها فى كل الأحوال عاجزة عن صناعة خط مخالف لخط الفشل السائد.

لم يقدّر العرب مصر حق قدرها، ولم يستوعبوا قيمتها الحضارية، ويأخذوا منها ويعطوها فى إطار الوعى بها كدولة ناجحة ورثت ثقافة نجاح عن دولة فرعونية تألقت عبر ألوف السنين، على العكس تماماً لم ير العرب فى مصر إلا خيرها، فوجدوا فيها مطمعاً، وكانت عبارة «طُعمة مصر» العبارة التى تحمل المعادلة السحرية التى تعامل بها العرب مع هذا البلد، فشرعوا يحلبون خيرها، بدءاً من عصر عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعلى مدار مؤسسات الخلافة المختلفة التى حكمت المسلمين بعد زوال الخلافة الراشدة. دعنى أستشهد فى هذا المقام بذلك الحوار الشهير الذى قال فيه عثمان بن عفان لعمرو بن العاص، بعد عزله عن ولاية مصر: يا عمرو، هل تعلم أن تلك اللقاح‏ -يقصد مصر- درَّت بعدك‏؟‏ فقال عمرو‏: إن فصالها هلكت‏.‏ يريد عثمان أن مصر قد كثر خراجها على يد عبدالله بن سعد، فقال له عمرو‏: إن فصالها هلكت، أى إن أولاد اللقاح (النوق) قد هلكت بحرمانها من اللبن، يريد أن فى ذلك إرهاقاً لأهالى مصر وتحميلهم ما لا يطاق. عملية الحلب والدر لمصر تواصلت خلال فترات حكم الدولة الأموية ثم العباسية ثم فى العصرين المملوكى والعثمانى. لم يقف الحلب عند خير الأرض التى يرويها النيل، بل امتد إلى سرقة كنوز الفراعنة وهى الفكرة التى قامت عليها دولة مثل الدولة الطولونية، وسرقة البشر، مثلما فعل العثمانيون عندما نقلوا الصنّاع والعمال المهرة من مصر إلى الأستانة. وهل ثمة سبب أوجه للفشل من نحر الأرض والحجر والبشر؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف