ماجد حبته
إرضاع طفل يضع «دولة» على الخريطة!
خريطة جديدة تتشكل للعالم، لا ترسمها الأبعاد والمسافات والمساحات المنتقلة من الطبيعة إلى الورق بمقياس رسم مناسب، ولا أثر فيها للمناطق الجغرافية، وليست معنية بالتضاريس أو المناخ أو توزيع السكان وكثافتهم. ما يرسم الخريطة الجديدة هو بوصلة المواقع الإلكترونية التي لا يحدّد اتجاه غالبيتها إلا «الترافيك» أي «عدد الزوار»، و«التريند» أو أكثر الأخبار رواجًا!.
هل سمعت من قبل عن دولة «قيرجيزستان»؟!.
أعتقد أنك ستجيب بـ«لا» وستكرر نطق الاسم مرات، حتى تتمكن من نطقه. وقد تمتد يداك إلى الـ«كي بورد» وتلجأ إلى محرك بحث، لتعرف أنها تقع في قارة آسيا، مساحتها ٢٠٠ ألف كيلومتر تقريبًا، يسكنها ٥ ملايين نسمة، واستقلّت عن الاتحاد السوفيتي في أواخر ١٩٩١، توصف بـ«سويسرا آسيا الوسطى»، وعاصمتها «بشكيك». وأرجو ألا تسيطر عليك روح «السخرية» أو «القلش» حتى لا أضطر إلى النواح أو «الولولة» مع الأستاذ كاظم الساهر: «أشكيك لمين.. أشعر بقلبي اللي انظلم ويّاك سنين»!.
قيرجيزستان أو قيرجيزيا، تقع بين كازاخستان والصين وطاجيكستان وأوزبكستان، تملؤها جبال مهيبة تغطيها الثلوج شتاء، وبها بحيرة «إيسيك- كول» أو «البحيرة الساخنة»، ثاني أكبر بحيرة جبلية في العالم، التي تمتاز بعمقها السحيق، ودرجة حرارتها المعتدلة، رغم ارتفاعها ١٦٠٠ متر، فوق مستوى سطح البحر، ورغم قسوة شتاء آسيا الوسطى!. وبها جبل سليمان، أحد أهم مواقع التراث العالمي، وعلى قمته يوجد مسجد تم بناؤه سنة ١٥١٠ ومتحف «مجمّع سليمان الوطني التاريخي والأثري». والأهم من ذلك، هو أنهم يزعمون أن «النبي سليمان» مدفون في هذا الجبل!.
هل تسأل: وماذا بعد أو «وبعدين»؟!.
أم عشت دور الأستاذ مرتضى منصور وقلت: «أنا استفدت إيه من الكلام ده»؟!. لا تتعجل واستهدى بالله، وأكمل القراءة، لتعرف شيئًا عن دولة ذات أغلبية مسلمة، كانت إحدى الدول الـ٥٥ التي شاركت في «قعدة الرياض» التي وصفوها بـ«القمة العربية الإسلامية الأمريكية»!. دولة ٨٠٪ من سكانها مسلمون، و١٨٪ مسيحيون، و٢٪ يتبعون ديانات أخرى.
دولة خارج التغطية، ولا أعتقد أنك قرأت أو سمعت شيئًا عن وضعها الاقتصادي بالغ السوء، أو أحداثها السياسية المضطربة، أو حتى عن الانقلاب الذي حدث، سنة ٢٠١٠، وأطاح بالرئيس السابق كرمان بك باكييف، رغم سقوط عشرات وإصابة مئات، ورغم الأحداث أو الكوميديا التي صاحبته: فرار الرئيس من العاصمة واحتماؤه بمدينة أوش التي بقيت تحت سيطرة مؤيديه، وعرضه على المنقلبين تقديم استقالته مقابل ضمان سلامته وسلامة أقاربه، وهو العرض الذي رفضته الحكومة المؤقتة، قبل أن يتمكن من السفر إلى كازاخستان، بوساطات رؤساء أمريكا وروسيا وكازاخستان!.
قبل الانقلاب وبعده، شهدت قيرجيزستان أحداثًا كثيرة، لم تلتفت إليها وسائل الإعلام الدولية، وكأن تلك الدولة لا وجود لها على الخريطة!. غير أن الوضع اختلف تمامًا لمجرد قيام عليا شاجييفا، Aliya Shagieva، الابنة الصغرى للرئيس القيرجيزي، بوضع صورة لها في حسابها الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي!. صورة ترتدي فيها ملابس داخلية، وتقوم بإرضاع طفلها، الأمر الذي أشعل حالة من الجدل بشأن الدلالات الجنسية للصورة، التي صاحبها تعليق لـ«شاجييفا» يقول: «سأقوم بإرضاع طفلي حين يحتاج، في أي وقت وفى أي مكان».
انتقادات عنيفة وصفت الصورة بأنها غير أخلاقية، ولم يكن الهجوم من متابعي حسابها فقط، بل أعلن والداها، الرئيس والسيدة الأولى، عن ضيقهما وغضبهما من نشر الصورة. فاضطرت الفتاة إلى حذف الصورة من حسابها، لكن الجدل لم يتوقف، إذ قامت صحف ومواقع إلكترونية عديدة، بإعادة نشرها، تحت عناوين «م اللي بالك فيها»، وتخطى الموضوع حدود قيرجيزستان، ووصل إلى أوروبا والأمريكتين، ليتم التعامل مع الصورة بشكل مختلف، إذ أشاد بها كثيرون هنا وهناك، ورأوا فيها كسرًا لفكر وصفوه بأنه عقيم، وخروجًا على ثقافة قالوا إنها موروثة، تنظر إلى جسد المرأة على أنه من المحرمات.
«شاجييفا» تنشر باستمرار صورًا شخصية لها على مواقع التواصل الاجتماعي، ما كانت وسائل الإعلام الدولية ستلتفت لها أو ستعيرها انتباهًا لولا تلك الصورة، أو بشكل أكثر تحديدًا لولا ذلك الجدل الذي أحدثته، ولولا الهجوم العنيف الذي تعرضت له. والذي أرجعته، في حوار أجرته معها BBC إلى الثقافة السائدة التي «تغالي في نظرتها الجنسية للمرأة». وأوضحت: «هذا الجسد الذي مُنحت إياه ليس عيبًا، إن له وظائف ويلبي الاحتياجات النفسية لطفلي، وليس في الأمر أي جنس على الإطلاق».
مثلًا، لم تكن هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، ستلتفت للفتاة أو ستجرى معها ذلك الحوار الطويل، الذي حاولت فيه أن تعطى الموضوع قدرًا من العمق (قال يعني!) بتوسيع النقاش حول الصورة ومحاولة عقد مقارنات بين الثقافات المختلفة ونظرتها إلى الرضاعة الطبيعية وممارستها في الدول الإسلامية!. مع أن إرضاع الأمهات لأطفالهن في الأماكن العامة، ثار بشأنه جدل في دول كثيرة، بينها بريطانيا التى شهدت نقاشًا حادًا وسجالات مطولة، قبل ثلاث سنوات، لأن سيدة كانت تقوم بإرضاع طفلها في مطعم فندق كلاريدج الشهير، بالعاصمة البريطانية لندن، وطلبت منها إدارة المطعم أن تغطى ثديها!.
أرأيت أو «شفت بقى» كيف فعلت صورة، على شبكة التواصل الاجتماعي، ما لم تفعله أحداث اقتصادية مهمة كادت تدفع الدولة إلى إشهار إفلاسها.. أو سياسية كحدوث انقلاب أو المشاركة في «قعدة الرياض».. وما لم تفعله أيضًا أساطير «خزعبلاتية» كوجود قبر النبي سليمان؟!. أرأيت أو «شفت بقى» كيف يرسم «الترافيك» و«التريند» خريطة جديدة للعالم؟!.