عبد الجليل الشرنوبى
لا يُفتى و (الكشك) فى المترو!
فى زمن الضجيج بغير طحن، يعايش المواطن المصرى أوجاعاً عدة، موقناً بإيمانه القديم بأنها (ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج)، يلوذ المواطن المصرى بيقين فى إله واحد قديم عبده على مدى أعمار نسله، وخلف آثار إيمانه محفورة على جدران الأرواح التى تغادرها الأبدان وتبقى لفظ جلاله سرمديا يسرى إيماناً مصرياً خالصاً، باباً يربط المادى بالحسى عبر مفتاح الحياة، وبراحاً يربط القلوب بخيطٍ مصرى عقدى متين (الله محبة)، ورسالة إعمار وتوصل عنوانها «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، هكذا ببساطة عاش المواطن المصرى بإيمانه عبر العصور، وهكذا يحيا فى عصرنا حيث تكثُر الأوجاع ، وتزداد وطأتها قسوة مع زحف إيقاع المادة على الروح، فتضيق براح اليقين فى فرج ينتظره الجميع.
فى زمن انتظار المواطن المصرى للفرج، يتحول الدين من مجرد قيمة روحية إلى مقام به يلوذ الجميع، أملاً فى رفع كل غُمة، وحجب كل نقمة، ويتذكر الضمير الجميعى للمصريين تاريخهم القريب، حين انهزم الجُنّدْ واحتل العدو الضفة الأخرى للقناة، ثم كانت إرادة الثأر والانتصار واسترداد الأرض أول ما كانت لوذاً بحامى الحمى المترسخ فى الروح المصرية، فارتفعت الحناجر تزأر (الله أكبر) قبل أن يزأر رصاص النصر فى أفق أكتوبر العاشر من رمضان.
فى زمن ما بعد الانتصار، عايش المواطن المصرى انتظار الفرج على أبواب الانفتاح والسلام، كان على كل متربص بهذا الوطن أن يدرك أن العامل الأول الذى يجب أن يختل فى ميزان المواطن المصرى هو الدين، عامل القوة الذى يُسْتَنْصَر فينصر، ومُعَامِل الوِحْدَة الذى يُفَعَّل فيفْعَل، والبراح الذى يتسع فَيَلتئمْ شتات الوطن وناسه على حصيرة المحبة، وبالتأكيد فإن دفعات كهذه لأى مجتمع يجب أن تكون على رأس قوائم الاستهداف حين يقرر المتربصون النيل من وطن قديم.
فى أزمنة التربص التى يعايش المواطن المصرى أوجاع طعناتها، اعتبر المتربصون دين المصريين هدفاً، وقرر كل فريق أن يطوع الدين المصرى لخدمة (أجندته)، ولتحقيق أهدافه، ولقد سارت عمليات التطويع والاستخدام لدين المصريين فى مساراتها الاستثمارية دونما معوقات، خاصة أن دولة (23 يوليو) استدمجت الدين ومؤسساته ضمن منظومة الدولة، وفتحت الأبواب على عجل لتطوير الأزهر، الأمر الذى قلص فرص التطور الداخلى لمنظومته، وأخضع علماءه ومجتهديه لمعايير التوظُف، ففقد العلم ألقه وتخلى الاجتهاد عن براح الإبداع، هذا التخلى خلف أجيالاً من العلماء الموظفين، آفاقهم المتون، ومداهم اللوائح، وغاية إبداعهم الترقي، وفى المقابل كانت المليارات تُرصد، من قبل تنظيمات الدين السياسي، لإعادة إنتاج الدين بمقاييس التفتيت، ومع نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان الدين الجديد سلعة رائجة فى مساجد غاب عنها أئمتها الأصلاء، وفى زوايا أقيمت بنية جامعة بين الأجر والثواب والإعفاء من الضرائب!، وبدأ المواطن المصرى يتقلب بين الأديان التى كانت واحدة، ثم تحولت إلى إخوان، وسلف وتكفير وهجرة وناجين من النار وجماعة إسلامية وجهاد وأنصار سنة محمدية وجمعية شرعية ودعاة شباب، جميعهم يمارسون الدعوة إلى الدين، وجميعهم لهم مرجعياتهم الدينية والتنظيمية، وجميعهم لهم مصادرهم التمويلية القادرة على توفير منصات التسويق التى تبدأ من توفير فرص التدريب، وتمر باستحداث آليات التواصل والانتشار بين الجماهير، وتنتهى بتنويع أدوات الطرح ما بين أشرطة صوتية ومرئية ومطبوعات دورية وغير دورية وصولاً إلى منصات القنوات الفضائية وفضاءات الشبكات العنكبوتية.
فى زمن الأزمة التى يسعى المواطن المصرى إلى الفكاك من براثنها، يفرض الوقت على المعنى بإدارة المصير الديني، أن يتنبه لخطورة دوره المنشود على ثغر الوطن، إذ إنه يواجه إرهاباً فرض دينه وأسئلته على الواقع لعقود، وعمل على التمدد بعناصره وأفكاره داخل مؤسسات منظومات الإدارة الدينية، واستثمر حالة الفراغ الدينى الوظيفى ليتولى مهمة إعداد الدعاة عبر معاهد (رسمية وغير) أدارها، ويتولى مسئوليات البعوث الخارجية بالأزهر حتى تحولت إقامات شرائح منهم إلى معسكر تنظيمى مفتوح ينتهى بالحصول على شهادة جامعة الأزهر مقرونة بالبيعة للتنظيم، وبالتأكيد هكذا أرضية أنتجت طاقات بشرية تنظيمية يتم إدارتها حالياً عبر تنظيم دولى يمتلك من منصات التسويق ما لا يملكه (الأزهر) للأسف، ويمتلك من أدوات العرض الذاتية ما يفتقر إليه كثير دعاة الأزهر الرسميين، ويمتلك من خطط (نشر الدعوة) ما يتم وضعه على أعين خبراء الإدارة والتنمية البشرية فضلاً عن علماء دين تنظيميين!
فى زمن الحرب باسم الدين، يصبح تحرير الدين هدفاً رئيساً لنجاة المواطن والوطن، وبالتالى تتجاوز مسئولية الإمام الأكبر شيخ الأزهر تقليدية مهامه فى أزمنة السِلِم، ويكون توحيد الصف الدينى فرضاً لا نفلاً، ويصبح التترس بخطة تطوير موحدة واضحة الأهداف العامة ومحددة المحطات المرحلية، ومتعددة فى مستويات التأثير بداية من إنتاج فقه الواقع وخطابه، ومروراً بإعادة صياغة شخصية حامل الرسالة لا الوظيفة، وانتهاءً بتنويع لغة الخطاب بما يتانسب ودوائر التلقى وعياً وثقافة، إنها أولويات المرحلة ولزومياتها التى لا يتأتى الدفاع عن الحمى (الوطن والدين والمستقبل) إلا بها، وإنه الجَدْ الذى لا يتحمل تطويراً هزلياً لأدوات الدعوة الإسلامية عنوانه (لا يُفْتَى والكشك فى المترو)!