الوطن
د. محمود خليل
صناعة الفشل (2)
النظر إلى هذا البلد كـ«طعمة»، كما كان يحلو للعرب أن يصفوا مصر، أو كـ«نهيبة» بالمصطلح الشعبى، إحدى المقدمات الأساسية لإفشاله. تلك النظرة التى دفعت بمَن حكموا مصر إلى تجريف ثرواتها، دون سعى حقيقى إلى تنميتها، وتحويلها إلى دولة ناجحة قادرة على استثمار ما تمتلكه من ثروات طبيعية أو بشرية. هذه الرؤية التى تولّدت مع الفتح العربى لمصر، واحد من الأسباب الجوهرية التى أدت إلى فشل هذه الدولة، ثمة تجارب متنوعة حاولت تحدّى هذه الفكرة وأثمرت نتائج مبهرة، لكن الكثيرين عندما يقلبون صفحات التاريخ الحديث والمعاصر لهذا البلد لا يتعاملون معها بما تستحق من اهتمام، لأن جزءاً من الثقافة السائدة يستند إلى فكرة جلد، ولا أريد أن أقول «احتقار الذات» أكثر من غيرها. هناك ثلاث تجارب على وجه التحديد تستحق أن نتوقف أمامها.

التجربة الأولى هى تجربة محمد على، ورث «محمد على» تركة تخلّف الدولتين العثمانية والمملوكية، لكنه استطاع أن يبنى دولة حديثة، جعلت مصر القوة العسكرية الخامسة فى العالم، وأسس نظماً جديدة فى الزراعة والصناعة والتعليم، تمكنت من الانتقال بهذا البلد من فكرة المكان إلى فكرة المكانة. استند «محمد على» إلى رؤية وخطة ترتكز إلى عدد من الأسس، أولها التخلص من النخبة الفاشلة، التى تمثلت حينذاك فى المماليك، وثانيها تحدّى الأطماع الخارجية فى مصر التى تمثلت بالدرجة الأكبر فى أطماع الدولة العثمانية والأطماع الإنجليزية، وثالثها خلق البديل المصرى، على مستوى التعليم والإدارة والصناعة والجندية، وبان نتاج ذلك فى تجربة دولة استطاعت أن تقف على قدم المساواة مع دول عظمى حينذاك، وتحول دون تنفيذ مخططاتها فى المنطقة. إنها ثمرة العمل المخطط والهادف إلى بناء دولة، تحقق طموح الفرد، لكنها فى الوقت نفسه تنهض بالمكان ومَن يعيشون فى المكان.

التجربة الثانية، تتمثل فى تجربة الخديو إسماعيل. هذا الرجل امتاز بقدرة خاصة على البناء، ولو أنك ولّيت وجهك شطر أى مكان فى مصرنا المحروسة فالمؤكد أنك ستلمح أثراً من آثار هذا الرجل. تبنّى «إسماعيل» رؤية تطمح إلى جعل مصر قطعة من أوروبا، ورغم سقوطه فى فخ الديون، بما ترتب على ذلك من آثار، فإنه وجّه كل قرش للبناء وتحقيق رؤيته. قد يختلف البعض مع هذا النهج، لكن أصحاب التجارب محاسبون بالأساس على نجاحهم فى تحقيق الأهداف التى وضعوها لأنفسهم، وقد كان الخديو إسماعيل من هذا الصنف من البشر الذى يعرف كيف يحدد أهدافه، ويستميت بعد ذلك فى تحقيقها.

التجربة الثالثة، هى تجربة الرئيس الراحل أنور السادات، صانع نصر السادس من أكتوبر. تسلّم «السادات» البلاد وهى فى وضع لا تحسد عليه، اقتصاد أنهكته الحروب، وشعب سيطرت عليه ثقافة النكسة بكل آفاتها، وجيش مضطرب. لم يكن أمامه رغم كل هذه العراقيل إلا أن يتخذ قرار الحرب، ويحاول أن يحقق النصر بأدوات ليس فى مقدورها -بحسابات الواقع- أن تنجز مثل هذا الهدف، لكن الرجل استطاع، بالتخطيط الذكى تارةً، وباستنهاض الشعب تارةً، وبالمناورة السياسية تارةً، أن يحقق هدفه. هذه النماذج الثلاثة تشتمل على دروس عديدة ينبغى تأمّلها جيداً، وجوهر ما يجب أن نتعلمه منها أن النجاح ثقافة ورؤية وتخطيط وقدرة على خلق الأدوات، كما أن الفشل صناعة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف