الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
الخطأ ليس عيبا.. العيب تكراره!
ليس عيبا أن يقع الإنسان فى الخطأ. لكن العيب ألا يصححه بعد أن يقع فيه.

ونحن نقع فى الخطأ لأننا لا نبنى أحكامنا على ما نراه بحواسنا وحدها، وإنما نبنيها على ما نراه نحن وما يراه غيرنا ممن نتصل بهم ونستمع إليهم، ومما نستنتجه مما نراه ومما رأيناه من قبل. وأخيراً فنحن نبنى هذه الأحكام على ما نحبه ونتمناه. وفى هذا كله نحتاج لمعلومات لا تتوافر لنا دائما، ثم لا نضمن صحة ما نملكه منها، لأن حواسنا ليست معصومة، ولأننا قد نخدع أنفسنا فنرى الشيء كما نحب أن نراه وليس كما هو فى الحقيقة، ولأن الآخرين يقعون فيما نقع فيه، وقد يخدعون أنفسهم ويخدعوننا قاصدين أو غير قاصدين.

والحياة الإنسانية سلسلة متواصلة من الأعمال التى نصيب فيها ونخطئ، ونخطو إلى الأمام بقدر ما نتعلم من أعمالنا وتجاربنا فنعترف بالخطأ الذى نقع فيه، ونبحث عن أسبابه، ونتجنبها ولا نكررها فى خطوة قادمة. وبتوالى التجارب التى نخوضها تتوالى الدروس وتتراكم الخبرات، وتنضج وتتحول إلى وعى أو عقل ننتقل به من وضع إلى وضع، ومن طور إلى طور جديد. الوقوع فى الخطأ إذن ضمن هذه الحدود ليس عيبا، وإنما العيب هو أن نقع فى الخطأ ونستسلم له ونكرر الوقوع فيه كأنه قدر لا نستطيع رده أو فطرة فطرنا الله عليها.

نحن ننظر فى تاريخنا الذى عشناه طوال الأعوام الثلاثة الآلاف الماضية فنراه سلسلة من النكبات التى منينا بها عصرا بعد عصر. غزوات أجنبية متلاحقة، وحكام طغاة متألهون، وتراجع متواصل عما حققناه فى ماضينا القديم، وعجز عن المقاومة إلا فى هبات محدودة تنتهى غالبا بالاستسلام. هذا التاريخ الذى لا نستطيع أن نتحمله أو ندافع عنه لم يثر فينا حتى الآن الشعور بمسئوليتها عما وقع لنا فيه، ولم يستفزنا لمراجعته وتفسيره والوصول فى هذه المراجعة إلى الوعى الذى يؤهلنا للخروج مما نحن فيه والانطلاق من جديد فى الطريق الذى فتحناه للإنسانية وانجزنا فيه ما انجزناه. وأنا أعرف بالطبع كما يعرف الكثيرون أن ما وقع لنا وقع مثله لغيرنا أو أقل منه أو أكثر. بلاد كثيرة تعرضت للغزو والنهب، ودول سقطت، وأجناس وجماعات بشرية انقرضت. لكن البشر استطاعوا مع هذا أن ينهضوا من كبواتهم وأن يستردوا ما فقدوه وأن يواصلوا السير فى طريق التقدم حتى بلغوا ما بلغوه الآن.

وأنا أعرف أيضا أن ما وقع لنا كان فى كثير من الأحيان صادرا عن قوى متعددة ظلت تتحين الفرص لتنقض علينا وكان مرتبطا بظروف صعبة تحالفت ضدنا فلم نستطع أن نتغلب على أعدائنا الذين تكالبوا علينا وأسلمنا بعضهم إلى بعض وجردونا غزوة بعد غزوة من كل ما كنا نستطيع أن ندافع به عن أنفسنا. فحين فقدنا دولتنا المستقلة فقدنا قواتنا المسلحة وعجزنا عن المقاومة بالسيف ولم يبق لنا إلا أن نقاوم بالسلاح المعنوى الذى يتمثل فى استمساكنا بوحدتنا الوطنية، ووعينا بتاريخنا واعتزازنا به، وثقتنا فى أنفسنا وقدرتنا على مراجعة النفس واكتشاف الخطأ، ومن ثم العمل على استرداد ما فقدناه واستئناف التقدم بالشروط التى تكون بها الحياة الإنسانية حياة إنسانية بحق.

هذه الطاقة المعنوية التى كنا نستطيع أن نملك منها الكثير لم ننتفع بها فى مقاومة ما تعرضنا له كما يجب، بل أهملناها وبددناها وهربنا من مواجهة ما كان علينا أن نواجهه وزيفنا وعينا بمقومات وجودنا حين حولنا الدين إلى مهرب نلجأ إليه من مواجهة أنفسنا وجعلناه بديلا عن الوطن واعتبرنا العقيدة الدينية المشتركة رابطة تحتم علينا أن نفرط فى استقلالنا ونرضى بأن تكون بلادنا ولاية تابعة للامبراطوريات المسيحية والإسلامية التى قامت فى المنطقة، وأن نكون بهذه الرابطة عبيدا محكومين لعبيد حاكمين حملتهم القوافل سلعا معروضة للبيع فى أسواق الرقيق ثم أصبحوا فى بلادنا أمراء وسلاطين وبقينا نحن فيها رقيق أرض نفلحها لهم ونحمل لهم تحت ضربات السياط غلتها وننام جوعى محرومين! ثم لم نكتف بهذا فى تزييف وعينا بأنفسنا وبتاريخنا وإنما صدقنا وتبنينا روايات المتطرفين وخرافاتهم فرأينا عصورنا القديمة عصورا جاهلية برغم كل ما حققناه فيها من أمجاد لا تزال واقفة شامخة، ونظرنا بالعكس للعصور التى أنتسبنا لها دينيا فبرأناها من كل عيب برغم ما عرفناه فيها من الجوع والخوف والجهل والتخلف.

هذا التاريخ الحافل بالأخطاء المتكررة المتوطنة هل راجعناه وهل هذا التاريخ الحافل بالأخطاء المتكررة هل راجعناه؟ وهل تخلصنا فى هذا العصر الحديث من عيوبنا المتوطنة وأمراضنا المزمنة وأصبحنا قادرين على مراجعة أنفسنا واكتشاف أخطائنا وتصحيحها؟

إننى أنظر فى المقالات والمجادلات والتعليقات التى نشرتها الصحف أخيرا فى الذكرى الخامسة والستين لحركة يوليو التى لم نتفق بعد على تسمية صحيحة لها تشخصها وتحدد طبيعتها فلا أرى فى معظم ما قرأت اختلافا جوهريا عما كنا عليه فى العصور الماضية.

عراك بين فرق مختلفة كأنها فرق دينية لا تستند فيما تقول لوقائع ثابتة أو معلومات موثقة، وإنما هو شعارات تتناطح وعصبيات تتطاحن وتجاهل للسؤال الجوهرى وتهرب من مواجهته مع أننا نعرف نصف الإجابة على الأقل. نهدف ما حدث ونريد أن نعرف كيف حدث لنتعلم من الخطأ الذى وقعنا فيه ونتجنب الوقوع فيه من جديد.

نعرف أن ضباطا خرجوا على السلطة القائمة وحلوا محلها. ونعرف ماحدث بينهم وبين الأحزاب السياسية والفئات والطبقات الاجتماعية والتيارات الفكرية التى كانت موجود، وبينهم وبين أنفسهم، نعرف موقفهم من الدستور والديمقراطية والحريات العامة. ونعرف ما الذى تحقق من الاشتراكية، والوحدة العربية، وتحرير فلسطين، نعرف النتائج النهائية لما قام به هؤلاء الضباط وما صنعوه لمصر وللمصريين. حكم فرد، والفراغ السياسي، والهزائم العسكرية، والاقتصاد المتدهور، والردة الاجتماعية، والتراجع الثقافي. وفى هذا المناخ تنشط جماعات الإسلام السياسى وتحل بشعارات وتنظيماتها الإرهابية ومؤسساتها محل الجميع.

هذا ما نعرفه جيدا لأنه وقائع ثابتة وحوادث معروفة مشهورة والسؤال المطروح الذى نريد أن نعرف جوابه: كيف حدث ما حدث؟

وفى اعتقادى أن الجواب ليس سرا وليس لغزا ولا يكلفنا إلا أن ننظر فى المقدمات لنعرف النتائج. والخطأ الذى وقعت فيه أنا وغيرى من المثقفين الذين وقفوا إلى جانب يوليو ولم يستعيدوا وعيهم إلا بعد الهزيمة الكبرى أنهم انتظروا حتى جاءت النتائج وعندئذ انتبهوا للمقدمات!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف