المصرى اليوم
يوسف زيدان
موانع التقدم: وهم الواحدية
من أشهر العادات الشعبية المصرية وأكثرها مرحاً، الاحتفال بمرور أسبوع على المولود بإقامة جلسة الابتهاج المسائية المرحة التى نسميها «السبوع»، وقد شهدها معظمنا سواءً بالحضور أو فى الأفلام القديمة، أيام كانت صناعة السينما فى مصر رشيدة وغير مبتذلة مثلما صارت مؤخراً.. وهذا الاحتفال اللطيف يرتبط بعدة عناصر وأمور موروثة من الأزمنة القديمة، منها: الابتهاج ببقاء المولود حياً إذ كان الواقع القديم يشهد وفيات المواليد بكثرة نظراً لنقص الوعى والرعاية الطبية.. ومنها أيضاً: مرور أيام تكفى لاستعادة الأم الوالدة عافيتها من بعد وهن الولادة، والاعتياد العمومى لأمر يصير بحكم دوام تكراره بديهياً لا يحتاج لأى تبرير، ومكانة الرقم «سبعة» فى نفوس الناس منذ الزمن المصرى واليونانى القديم. وقد اهتممت هنا بذكر هذه العناصر والعوامل التى تآزرت وتساندت من أجل إبراز ظاهرة اجتماعية بسيطة، لأننا سنعود بعد قليل للكلام عن تآزر العناصر وتساندها من أجل إيجاد الظواهر الاجتماعية، بل والوقائع الفردية أيضاً.. كما سنرى لاحقاً.

ومن طقوس الاحتفال بالسبوع، مع توزيع الحلوى والحمص على الحاضرين ومشروب «المغات» المشهور، المغذى: علو الضحك وبلوغ المرح غايته مع الدقات الرنانة بالهاون النحاسى، حيث تصخب قريبات الأم بقولهن للمولود الذى لا يسمع بعد ولا يعى أصلاً ما يقال: اسمع كلام أمك! فترد قريبات الأب: اسمع كلام أبوك.. وتتوالى العبارتان ممزوجتين بجو من المرح والبهجة، من دون اكتراث أو التفات إلى أن ذلك ينطوى ضمناً على اعتقاد راسخ بأن الإنسان يجب أن يسمع كلام «واحد» بعينه، بس. بالمناسبة كلمة «بس» فصيحة وليست عامية كما يتوهم كثيرون!.

كنت فى العاشرة من عمرى، أو أقل قليلاً، عندما حضرت احتفالاً من هذا النوع «السبوع» وتجرأت على أمر فكان ما لم تحمد عقباه. فمع أننى كنت خجولاً بطبعى، إلا أننى لا أدرى ما الذى دهانى فدعانى لاقتحام حلقة التنافس الصاخب بين «اسمع كلام أمك، اسمع كلام أبوك» وصحت: اسمع كلام أمك وأبوك! سكتت دقات الهاون، وقبل أن يغمرنى الخجل ويطردنى من الجمع القهر، قلت: اسمع كلامهم هم الاتنين! فزعقت فىَّ إحدى الحاضرات «كان اسمها (ظريفة) وهى امرأة بيضاء، كنت أراها آنذاك ضخمة جداً وعبلة البلدن» قائلة:

- بس يا ولد، وامشى من هنا..

- أنا عايز أقعد معاكم

- لأ، هنا ستات وبنات، إنت كبرت خلاص.

انصعت لأمرها وخرجت صاغراً من غرفة الاحتفال، يعتصرنى ألم شديد وتحوطنى الحيرة والسؤال: لماذا لا يسمع المولود حين يكبر كلام أمه وأبيه، كليهما.. وبكيت بعيداً عن الأنظار فى مكان خال من الناس، خشية أن ترانى عمتى «الصعيدية جداً» التى كانت قد قالت لى سابقاً، محذرة، إنه لا يجوز أن يبكى الرجال.. فالبكاء للنساء، فقط! ومرت الأيام، ولاحظت مثلما لاحظ جميع المصريين أو معظمهم، أن الولد اليافع إذا فعل شيئاً محموداً قيل له على سبيل المدح إنه: ابن أبيه.. وفى المقابل، يقال لمن كان ضعيف الشخصية وخانعا بالطبع إنه «ابن أمه» وهو أمر لم أفهم مجازه لحداثة سنى، ولذلك كنت آنذاك أندهش منه ليقينى بأن كل إنسان هو ابن أبيه وأمه، معاً.

ثم توالت عمليات التنشئة الاجتماعية فى ثقافتنا المعاصرة، مؤكدة على «الواحدية» عبر تقنيات غير مباشرة، ومؤثرة، منها مفهوم الكتاب الدراسى «المقرر» الذى لا يحق لأحد أن يسأل أو يستفسر عن السبب فى أن اللفظة مبنية للمجهول، فهو مقرر بصرف النظر عمن قرره. ثم تطور الأمر فلم يعد «المقرر» هو الكتاب المدرسى فحسب، فحتى الجامعة صار فيها: الكتاب المقرر، المدعوم سعره! مع أن هذا يخالف الأساس المعرفى المفتوح، الواجب وجوده فى التعليم الجامعى.

وفى المجال السياسى، انعدم اللاعبون واختفت الأسماء الكبيرة من المشهد عقب حركة الضباط الأحرار جداً، فصار هناك الحاكم الأوحد الذى لا يدانيه أحد فى المكانة، ولا يحلم أحد بمزاحمته أو إزاحته.. فهو واحد بل أوحد، حتى يموت «خالد الذكر» أو يقتل غيلة «السادات» أو يُخلع عنوة بعدما تثور عليه الجماهير مدعومة برغبة المجلس العسكرى «مبارك».. فتحدث كل مرة هزة عنيفة، لأن الواحد منهم كان منفرداً، وحيداً، متوحداً بالسلطة متأبداً على كرسيه.. وليس هناك أى تفكير فى تداول السلطة، وكيف يتم تداولها والحاكم واحد ولا أحد يطاوله أو يقاربه أو يحل محله وهو حى، إلا بثورة قد تقود إلى فوضى قد تؤدى إلى الدمار التام.

ثم يدعم رجال الدين هذه «الواحدية» السياسية، لتتأكد فى النفوس وترسخ، بعد عمليات التنشئة الاجتماعية المؤكدة لها والمرسخة.. فيطرحون الحديث العجيب القائل: الحاكم ظل الإله فى الأرض! ومادام هو ظل الله الواحد، فلابد أن يكون شخصاً واحداً، لأن الله له ظل واحد. وحين حاول الصوفية الكبار الأوائل، الخروج من هذا المأزق بقولهم إن تجليات الله متعددة ولا تنقطع، تم اضطهادهم وتهميش كلامهم لصالح رؤى عقائدية فى أصول الدين، منها: جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل! وجوب الطاعة للمتغلب بالسيف! السمع والطاعة ولو لعبد حبشى!.. وهكذا تم تحريك دلالة «الإمامة» لتجمع بين أمور الدين وشؤون الدنيا، وتصير بنوع من المراوغة الخادعة مؤكدة لواحدية الحاكم ومبررة لانفراده بالرأى والرؤية، بل مهددة للمخالف وممهدة لقبول قول الحاكم، وما كان يقال للمولود فى يومه السابع: تن، تن، تن، اسمع كلام أمك، اسمع كلام أبوك، اسمعوا كلامى أنا بس.. إلزم حدود الأدب.. مش عاوز حد يتكلم تانى فى الموضوع ده.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة... إلخ.

هذا على صعيد الواقع السياسى، حيث الحاكم الواحد والكلام الواحد والقرار الواحد.. وعلى صعيد الفكر الدينى الذى يطمح الحالمون اليوم إلى تطوير رؤاه ومنطلقاته، تم تحريك دلالات المفردات كى تتطابق أو تختلط مفاهيم: الوحدة، التوحيد، الواحدية، الأحدية.. وقبل كل شىء، لابد هنا من تبيين أن «الأحدية» هى الصفة الإلهية التى لا تشترك بين البشر والإله، ويلحق بها بنص القرآن الكريم صفة «الصمدية» وما عداهما فإن معظم الصفات مشتركة، حتى صفة «الربوبية» التى يجوز إطلاقها على الناس، كما فى قولنا: ربة البيت، رب العمل.. وكذلك الحال فى الرحمة والقهر والكرم والبطش والعفو، إلخ، فهذه كلها يمكن وصف البشر بها. بل يمكن وصف الإنسان بالصفات السبع الذاتية لله، عند الأشاعرة: الحياة، العلم، السمع، البصر، الكلام، الإرادة، القدرة.

وبنوع من المخايلة اللفظية والمغالطة المنطقية، يجرى دمج معانى الأحدية والواحدية والتوحيد والوحدة، ويتم إعلاء شعار «الإسلام دين التوحيد» وهو ما يتضمن الإشارة إلى أن غيره من الأديان ليس توحيدياً، ومن هنا تكون «الإزاحة» كمقدمة للإدانة، فتكون العقيدة الأرثوذكسية مثلاً هى عقيدة وتثليث، مع أن الشعار الأرثوذكسى «لاهوته لم يفارق ناسوته ولا طرفة عين» يشير إلى الوحدة والتوحيد بين اللاهوت والناسوت! ناهيك عن أن المسيحية ترتقى من الثالوث إلى الإله الواحد، الأول «آمين، آمون» بقولها: بسم الآب والابن وروح القدس، إله واحد، آمين.

ثم لا يتوقف الفكر الدينى عن الإزاحة العامة والفصم والوصم والإدانة لأى دين آخر، على اعتبار أن الدين الحق لابد أن يكون واحداً. وإنما تهيمن «الواحدية» على الأوهام داخل الدين الواحد، انطلاقاً من أن المذهب الدينى لابد له أن يكون هو الآخر «واحداً» وليس لغيره إلا الإزاحة والفصم والوصم والإدانة.. فالمذهب السنى هو وحده الحق، ولا عبرة ولا اعتبار ولا اعتراف بغيره من مذاهب الإسلاميين. وهنا تتم الاستعانة بأصول نقلية لا عقلية، مثل الحديث المشهور: تتفرق أمتى على بضع وسبعين فرقة، كلهم فى النار، عدا أهل السنة!

ثم يتمادى الفكر الدينى المعتل، فلا يتوقف عند إزاحة وإدانة الديانات الأخرى، والمذاهب العقائدية الأخرى، وإنما يصل إلى المدارس الفقهية داخل المذهب ذاته. فيستعلى الشافعية مثلاً على الأحناف، ويرى المالكية أنهم المذهب الحق وغيرهم على الباطل.. ولقد حكى لنا التاريخ عن الويلات التى جرت بين أتباع المذاهب، وعراك المالكية مع الحنابلة بل الحروب التى اندلعت فى الشام إبان القرن الثامن الهجرى، بين القرى والبلدات التى تدين بالمذهب الحنفى والأخرى التى تدين بالمذهب الشافعى، ومات من أجل هذا الصراع كثيرون وخربت بسببه النواحى. حتى جاء العثمانيون وفرضوا مذهبهم الحنفى، حتى فى مصر التى كان أهلها دوماً من الشافعية.. ومن المضحكات المبكيات فى هذا الصدد، إصرار فقهائنا عند عقد النكاح «الزواج، كتب الكتاب» على إقرار الزوج بأنه تزوج: على سُـنة الله ورسوله وعلى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان.. ومعظم المصريين المعاصرين تزوجوا على هذا الشرط، وكثير منهم طلق زوجته واستفتى فرد إليه زوجته بفتوى على المذهب الحنبلى لأنه متوسع فى هذه الفروع «ومتشدد فقط فى أصول الدين» وهو ما يجعل العودة باطلة شرعاً، لأن العقد الأول اشترط ما لا ضرورة له، أصلاً.

ثم يتمادى الفكر الدينى فى هذا الغى وتلك المتاهة الحلزونية، فلا يكتفى بنفى المختلف معه فى الدين، وفى المذهب العقائدى، وفى الاجتهاد الفقهى.. فيقع فى جب الإعلاء الوهمى للذات المفردة، حتى داخل المحيط الفقهى والمذهبى والدينى، فنجد جماعة مثل داعش تقتل جماعة مثل النصرة، مع أن كليهما مسلم سُـنى شافعى أو حنفى أو لا يدرى طبيعة مذهبه الفقهى أصلاً، ومع ذلك يقتل بعضهم البعض الآخر انطلاقاً من أنه «آخر» مختلف، والحق فى أوهامهم واحد لا يجوز الاختلاف فيه أو الاختلاف عنه.

وهكذا تتوالى الحلقات المتداخلة لتلك الدائرة الجهنمية «الواحدية» فتحرق الأخضر واليابس، إذا وجدت الفرصة، وينشر الناس حولهم الخراب وهم يظنون أنهم الأحق، الذين يحسنون صنعاً.. وهذا بلاء ما بعده بلاء.

■ ■ ■

وبعد.. فإن كل ما سبق هو مجرد مقدمة لموضوع مقالتنا اليوم، فى معرض تشخيص وتحديد معوقات النهضة وموانع التقدم. وهو موضوع مهم وبسيط فى آن واحد، ويمكن بعد ما سبق من تمهيدات أن نلخصه بعبارات موجزة نصها الآتى:

التحضر والتقدم والارتقاء بالمجتمعات هو عملية مركبة تشترك لإظهارها عوامل متعددة وعناصر مختلفة.. متعددة ومختلفة.. متعددة ومختلفة! والواحدية بأوهامها التى لا تنتهى وخرابها الذى لا آخر له، هى عائق أساسى يحول دون أى فعل حضارى راق، ويطيح بكل الرؤى الإنسانية السامية/ المتسامية، التى تصنع التقدم والرقى إذا تآزرت وتفاعلت فيما بينها على نحو رشيد.. والأهم: إذا تعددت فياليت قومى يعلمون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف