الوطن
د. محمود خليل
صناعة الفشل (3)
مثلت الحملة الفرنسية صدمة حضارية مدهشة للمصريين، شعروا خلال سنواتها الثلاث بمستوى الفشل الذى وصلوا إليه، وهوة التخلف التى يقبعون فيها. قاوم المصريون «الفرنسيين» حتى أخرجوهم من ديارهم، لكن الحملة خلّفت فى نفوسهم إحساساً لا ينمحى بالهزيمة الحضارية، عزاه بعض أفراد النخبة والكثير من أفراد الشعب إلى ضعف دولة الخلافة، وعدم قدرتها على حماية ديار المسلمين، نتيجة عدم تمسكها بالإسلام، وأنها لو كانت مثل الخلافة الراشدة ما طمع الأعداء فى أرضهم وخيرهم. فكرة تعضيد الخلافة كانت الفكرة الأساسية التى دخلت بها مصر العصرين الحديث والمعاصر. الوحيد الذى كان يرى أن الخلافة هى سر فشل الدولة المصرية هو محمد على، فانطلق يقطع عرى ارتباط مصر بالدولة العثمانية، وشرع فى بناء نهضة يعتمد فيها على معطيات مصر وقدرات المصريين، دولة مستقلة لها تجربتها، بما تنطوى من سلبيات وإيجابيات، تجربة اعتمدت على فكرة «الاستقلال بمصر»، ليكون خيرها فى حجر أبنائها، وليس «طُعمة» لدولة الخلافة. السلبية الأساسية فى تجربة محمد على تتمثل فى عجزه عن غرس هذه الفكرة لدى المصريين، حتى يضمن لها الاستمرار من بعده. المشكلة أنه لم يفعل، واعتمد كأى حاكم شرقى فى زمانه على مبدأ أن على الرعية أن تسمع وتطيع.

شهدت تجربة محمد على نوعاً من التراجع الذى أخذ منحناه يزيد من حاكم إلى آخر من حكام الأسرة العلوية، ولم يكن أحد من خلفائه، باستثناء الخديو إسماعيل، على نفس القدرات التى تمتع بها الوالى الكبير، فكانت النتيجة أن أخذت الدولة فى التراجع لتعود إلى مكانها المفضل منذ الفتح العربى!. كان مصطفى كامل الرمز الأكبر لهذه العودة، عندما انبرى يدافع عن حق مصر فى الاستقلال، انطلاقاً من أنها ولاية تابعة للخلافة العثمانية، وأخذ يدافع عن الدولة العلية، ويروج لفكرة «الجامعة الإسلامية»، يدعمه فى ذلك الخديو عباس حلمى. وفكرة الخلافة تلك هى الفكرة الرمزية التى نشأت حولها الجماعات الإسلامية فى مصر وغيرها من بلاد العرب، بما فى ذلك جماعة الإخوان. تمكن هذه الفكرة من مصر والمصريين هو الذى أصاب هذا البلد برجّة وهزّة عنيفة عقب إعلان مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة عام 1924، ألغيت الخلافة فى بلد المنشأ، لكن المصريين تمسكوا بها، فانطلقوا يبحثون عن حل للمسألة وكادوا يعلنون السلطان فؤاد الأول خليفة لمصر لولا تدخل حزب الوفد ورفضه للأمر.

كان الأزهر الجهة التى تبنت هذا الطرح، والأزهر أيضاً هو الذى أطاح بالشيخ على عبدالرازق خارجه عندما تحدى تبنى الأزهر لفكرة «ترسيم خليفة» عقب سقوط الخلافة العثمانية، من خلال كتابه الأشهر: «أصول الحكم فى الإسلام». من حضن الأزهر خرج الشيخ رشيد رضا علينا بكتاب يدافع عن الخلافة الإسلامية، وفى حضن رشيد رضا تعلم حسن البنا، فأنشأ جماعة الإخوان عام 1928 وهدفها الأكبر إعادة الخلافة الإخوانية، ولما قامت ثورة يناير أصابت النشوى رأس المرشد الأخير للجماعة الدكتور محمد بديع، فتحدث وهو فى أعلى حالات الطرب عن «قرب استعادة الخلافة وأستاذية العالم»!. وعلى مدار عشرات السنين تربت أجيال تظن أن الخروج من حالة الفشل لا يتطلب أكثر من إتقان الصلاة وإحسان العبادة والانقطاع فى المساجد، والتمحّك بالسماء فى كل قول، والحلم بعودة الخلافة على النهج الراشدى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف