جمال سلطان
الاقتصاد على طريقة "الطاقية" الواحدة والرؤوس المتعددة !
حكاية "الطاقية" الواحدة والرؤوس المتعددة تعني أن محاولة تصوير عشرة أشخاص بأنهم يرتدون "طاقية" في حين أنها طاقية واحدة يتم تداولها ونقلها من رأس إلى رأس وهي نفس "الطاقية" تعبير شعبي يطلقه المصريون عادة على محاولات "التضليل" وتصوير الواقع بالاحتيال على غير حقيقته ، لاعطاء انطباعات غير صحيحة عن واقعة ما أو شخص ما ، وهذه "النظرية" الشعبية هي التي قفزت إلى ذهني مباشرة بعد أن قرأت بيان البنك المركزي عن ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي في مصر فجأة إلى 36 مليار دولار أو أكثر قليلا في شهر يوليو، بعد أن كان في الشهر الذي سبقه مباشرة "يونيه" حوالي 31 مليارا ، ولما كان الشرق والغرب والداخل والخارج يعلمون حال اقتصادنا ، ويرون بأم أعينهم أحوال البلاد والعباد ، فكان لا بد من التساؤل عن القفزة "المعجزة" التي حققت ذلك الرقم في الاحتياطي النقدي .
الاحتفال بالاحتياطي النقدي لدولة ، وهو أهم معلم لقوة اقتصادها وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية أمام المؤسسات الدولية المختلفة وقدرتها على ضمان تغطية احتياجات شعبها لفترات طويلة وحماية عملتها الوطنية ، لا يمكن قبوله إلا إذا كانت تلك الأموال المختزنة في الاحتياطي النقدي هي أموال وطنية حقيقية ، وأنها عائد من نمو الاقتصاد بشرايينه المتعددة ، صناعة وتجارة واستثمار وتصدير وسياحة وخلافه ، أما عندما يكون الاحتياطي النقدي لك هو مجرد حصولك على ديون من الدول الأجنبية بصيغ مختلفة ، فتزيد رقم مديونياتك مليارا مثلا وتضيف هذا المليار في رقم احتياطيك النقدي وتعتبره زاد مليارا ، وتفتخر بذلك ، فتلك هي نظرية "الطاقية" الواحدة والرؤوس المتعددة في أوضح صورها ، وحاملوا المباخر للرئيس الذين حاولوا توظيف ذلك الرقم للإشادة بالعبقرية الاقتصادية ، رغم الإرهاب وتوقف السياحة وتعطل أجزاء كبيرة من عجلة الاقتصاد ، لا ينشرون الوجه الآخر للمعلومة ، وهي أن الديون المتراكمة على الدولة المصرية زادت خلال تلك الفترة نفسها بصورة رهيبة ، ووصلت إلى حوالي خمسة وسبعين مليار دولار ، بعد أن كانت لا تصل إلى ثلاثين مليار قبل خمس سنوات ، والديون تعني أن التزامات السداد للدولة تجاه أصحاب تلك الديون سوف تتعاظم مستقبلا كما أن فوائد خدمة تلك الديون تتعاظم هي الأخرى ، وكل ذلك يلقي بعبء ثقيل للغاية على الدولة وقدرتها على إنجاز أي تنمية جادة ، أو حتى تطوير البنية الأساسية المهترئة في مناطق واسعة من البلاد .
الاحتياطي النقدي في غالبيته الساحقة الآن هو ودائع / ديون من دول الخليج ، أو قروض من مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي ، وبالتالي فهو تضخم شكلي لا معنى له ولا قيمة من الناحية العملية والعلمية اقتصاديا ، سوى أن ينضوي تحت التصورات المتكررة للرئاسة بأهمية رفع الروح المعنوية للشعب ، على النحو الذي حدث في تفريعة قناة السويس التي أهدرنا فيها أموالا طائلة بلا معنى وكانت مفتاحا لانهيار اقتصادي ، والطريف أن رئيس الهيئة أصبح يتهرب من إعلان عائد قناة السويس الجديد بالعملة الأجنبية كما هو معتاد ، لأنها تكشف عن تراجع الدخل ، ويتعمد إعلانه بمعادلته بالعملية المحلية ، التي انهارت ، لكي يظهر ارتفاعا وهميا في دخل القناة ، وتلك أساليب لا تفعلها أي سلطة تحترم شعبها وتحترم منطق العلم أو أي منطق اقتصادي ، مجرد فهلوة .
الاحتياطي النقدي الذي نفرح به ونتمناه هو ما يكون من عائد كدنا وعملنا وانتاجنا ، وليس الديون التي نثقل بها كاهل الوطن من إظهارها أرقاما في الاحتياطي النقدي نستعرض بها عضلات وهمية ، وهذه الخطوة لا يمكن أن تحدث إلا وفق عمل جاد وخطط محترفين غير مسيسين ورؤى مدنية ملهمة تملك القدرة على اتخاذ القرار بدون خوف ، وتدرك أن بدهيات التنمية أن تبدأ بتشغيل المصانع المعطلة ، وإصلاح قوانين الاستثمار وتعزيز ضمانات القانون واستقراره وحرمته وتحصين استقلال القضاء لإرسال تلك الضمانة للمستثمر والمواطن العادي ، وتفعيل حركة الانتاج والتصدير ودعمها ، وحل مشكلاتك السياسية بعيدا عن الاستعراضات الأمنية والإعلامية التي تطيل أمد الانقسام الوطني وتحطم أي جهد للنهوض أو التنمية ، والتوقف عن إهدار أموال الدولة في عقارات ومدن جديدة استعراضية ليس لها أي أولوية للاقتصاد ، ولا قيمة لها للداخل ، المفتقر للسيولة والقدرة على الشراء والذي يعاني من ضيق ذات اليد وضعف الانتاج ، وإنما هي هدايا سهلة للأجانب القادرين على الشراء ، أرضا وعقارا.