الدستور
جلال حمام
الخوف بين التبصير والترهيب
فرق بين التبصير والترهيب.. فالأول يلقى بالضوء فى طريقنا، حتى نعلم مواقع أقدامنا، نتقى به مصارع السوء، ونسلك على هديه دروب الأمان.. والثانى يدعو إلى الارتباك وانحلال الأوصال، ويُفقد القدرة على التفكير السليم، مادام نجح فى نشر غيامة من السواد أمام العيون، فلم تعد تُبصر ما أمامها، فقررت تسليم زمامها ووثاق قيادها.. وقد فرّق علماء اللغة بين «النظر» و«البصر».. فالنظر، هو أن ترى الشىء دون تفاصيله، أو دقائق ملامحه، والبصر، هو أن ترى بإدراك ووضوح، وتشهد على كل الجزئيات.. وهو عين ما يهدف إليه التبصير.. أن تدخل غمار الدائرة، فترى كل ما فيها وتفاصيل حواشيها، تعرف حدودها، وكيفية الخروج من مآزقها، وتلافى تيه حواريها.

وما أظن الرئيس السيسى قد عمد، فى كلمته خلال المؤتمر الرابع للشباب بالإسكندرية، إلى ترهيب الناس وإخافتهم، بدعوته إلى استشعار «الفوبيا»، بل أرى أنها كانت دعوة منه إلى الحذر والحيطة، دون السقوط من علٍ.. وقديمًا قالوا «مَنْ خاف، سَلِمَ».. ولست مع الذين انبروا، عبر مواقع التواصل الاجتماعى، تعليقًا على كلمة الرئيس فى هذا الصدد، وضيق نظرتهم إلى ما قال، والذهاب، مغرضين، بأنها دعوة، بدعوى الخوف، إلى تسليم أنفسهم، والتخلى عن حريتهم، مقابل أن ينعموا بالأمان، غير مدركين أن الرجل يتكلم عن علمٍ، وبمعلومات، ومن خبرة، هيأته لها طبيعة عمله، القائمة على التفكير والتمحيص، والاستناد إلى المعلومة المؤكدة، يتحدث بها عن تخوفاته، ويعبر من خلالها عن آماله وطموحاته، فى بلد يرى أنه مُحاط بألف مؤامرة، وداخله مسكون بمن يكيدون له أكثر من أعدائه.. وقد نسى البعض أو تناسوا، أن رجل المخابرات لا يتحدث من فراغ، أو يتصرف عن هوى.

إن الذى لا يؤمن بالمؤامرة على مصر، إما غافل أو متغافل، وإما جاهل أو متجاهل حقيقة ما يجرى من حوله.. وبعيدًا عن دعاوى تخوينى لأحد، دعونا نستطلع ما أقر به الخبراء، من طرائق ووسائل من يكيدون لمصر من أجل إفشالها، وبأيادى بعض أبنائها، وويل لوطن يتداعى عليه بعض أبنائه، كما تتكالب الأكلة على قصعتها.. يقول أولو العلم إننا محاطون بمن يعمل على إثارة الفوضى فى بلادنا، عن طريق أفراد ممولة، لنشر الشائعات فى إطار الحرب المعلنة على الدولة، بما يسمى حروب «الجيل الرابع»، التى تهدف إلى نشر القلاقل وإثارة الاقتتال الداخلى‏.. وبمن يعمل على إصابة الناس باليأس والإحباط وقتل الأمل فى غدٍ أفضل، عن طريق الحصار الاقتصادى، وإيقاعهم فريسة فى مصيدة العوز.. وبمن يحاول رفع حالة السخط ضد النظام، والترويج لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، لتأجيج المشاعر والاحتجاجات بهدف ودون هدف، لإنهاك الدولة.

وبمن يحاول ضرب تماسك الجبهة الداخلية للوطن، وزرع روح التشكيك بين الجميع، والعمل على تفشى العنصرية بين النسيج الوطنى الواحد، بما يقود إلى هدم المجتمع ومؤسساته، ورفع سقف النقد الخارجى للدولة.. ناهيك عن محاولات الدول الداعمة للإرهاب تجنيد الشباب، وإرسالهم إلى دول المخططات لتلقى تدريبات، وإقناعهم بأن ساعة الصفر حانت لـ«التغيير»!، وليست قطر وتركيا ببعيد عن ذلك.. ومحاطون بمن يعمل على زعزعة الثقة بين المواطنين وقادتهم، والنيل من روحهم الوطنية، وبث الشك فى قدرتهم على حماية وطنهم وصون كرامته.. وتكتمل طرائق محاولات إفشال الدولة المصرية، بظهور جماعات دينية متطرفة وممولة من جهات خارجية، لتنفيذ أجندات تخلق الفوضى، بمحاولة السيطرة على أجزاء من الدولة لصنع إقليم، تتم السيطرة عليه من قبل قوى خارج الدولة، وتأتى سيناء هنا نموذجًا.. وأخيرًا، خلق جمعيات أهلية، مدعومة من الخارج، تتغلغل فى المجتمع، للتسويق لرؤى تظهر النظام الحاكم بأنه يتجاهلهم ويرفضهم ويهمل مطالبهم الطبيعية، من أجل إحداث حالة التفكيك المستهدفة.

فهل بعد ذلك نستنكف ممن يحذرنا ويحفز فينا مكامن الخوف على بلدنا؟.. هل الخوف أمر ممجوج، إذا كان يتعلق بسلامة الوطن والحذر من العدو، أم أنه سليقة إنسانية؟.. الشاهد أننا نخاف على من نحب وما نملك.. نخاف على أنفسنا قدر حرصنا على الحياة، ونخاف على أولادنا بقدر محبتنا لهم، ونخاف على ما نملك بحجم ما أنفقنا من أعمارنا فى تحصيله، نحب الحبيبة، بقدر ما تملك علينا أنفسنا، ونحب بلدنا، لأنه ينضوى فيها كل ما سبق.. وهل يكون للحياة، أصلًا، وجود بلا وطن؟.. ويكون هنا «الخوف» على الوطن مرادفًا للحياة.. وهو ما يفسر كيف نقبل على الموت فداءً لبلادنا، هذه المتمردة، بإرادة شعبها، على مؤامرات الخريف العربى، المحفوظة، بأهلها وعقل قيادتها، من نزق المارقين، الذين أرادوها واحدة ممن سقطوا تحت وطأة المؤامرة، وفى غفلة عن الذين أرادوا لهم فرقة وتشتيتًا.. هذه الدولة المصرية، الجواد الجامح فى عبقريتها وانطلاقها نحو الغد، بإصلاح اقتصادى جاد، حول ربوعها إلى ورشة عمل كبرى، إنتاجها فاق الخيال،، لأن هذا الإصلاح جاء بأعاجيب تنموية، تجاوزت حدود الزمان والمكان، وسابقت القدرة الفعلية على الفعل إلى حدود الواقع العجيب فى نتائجه.. فهل بعد ذلك يسأل البعض: وهل نحن تحت وطأة مؤامرة؟. فكانت الدعوة للحرص والحذر، ومن ثم «الخوف» على هذا البلد، بقدر خوفنا على أنفسنا وعلى مستقبل أولادنا.

يقول أهل العلم إن لفظ «الخوف» جاء فى القرآن الكريم على عدة معانٍ، أهمها معنى الحرب، والعدو، والعلم، والظن، وأكثر ما جاء بمعنى «الخوف» نفسه، وهو الحالة النفسية التى تنتاب الإنسان جراء توقع ما يَرِدُ من المكروه، أو يفوت من المُحبَب.. وقد ورد فى القرآن الكريم كثير مما يدل على فضل الخوف، وآية ذلك أن الله جمع للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان، وهى من مجامع مقامات أهل الجنان، قال الله سبحانه ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الأعراف:١٥٤)، وقال تعالى ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ﴾ (البينة:٨).. وبالاستقراء نجد أن كل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف؛ لأن الخوف ثمرة العلم.. وفى مقام آخر، أمر الله بالخوف، وجعله شرطًا فى الإيمان فقال عز وجل ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:١٧٥)؛ ولذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه.. ولله المثل الأعلى، فإن ما أراده الرئيس باستشعارنا الخوف على بلدنا، هو دعوته بضرورة التبصر بما يُحاك لها، ويُضمره لها أهل الشر، ففى ذلك النجاة لها ولنا، من كل مكروه.. فهل نعقل ما قاله الرئيس؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف