الأهرام
جمال عبد الجواد
مصر فى مرآة فنزويلا
هذا المقال عما يحدث فى فنزويلا. لن أكتب عن الأزمة السياسية فى هذا البلد، ولا عن عصف الحكومة بمجلس النواب الذى تسيطر المعارضة على أغلبية مقاعده، ولا عن سعى الحكومة لكتابة دستور جديد يقوى قبضتها فى مواجهة المعارضة المتزايدة، لن أكتب عن كل ذلك لأن فشل الديمقراطية فى بلد نام ليس خبرا، فهذه هى القاعدة المرجحة فى أغلب البلدان النامية، وإنما نجاح الديمقراطية فى بلد من بلاد العالم الثالث هو الخبر الحقيقي، الذى يمثل اختراقا وانجازا يستحق الاهتمام به والكتابة عنه.

سأكتب عن الأزمة الاقتصادية فى فنزويلا، والتى هى أحد أسباب الأزمة السياسية التى تضرب هذا البلد، وأظن أن فهم أسباب الأزمة الاقتصادية فى فنزويلا يساعدنا على فهم أسباب أزمة الديمقراطية والحكم هناك أيضا.

أكتب عن فنزويلا ليس فقط بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية هناك، ولكن لوجود قدر غير قليل من التشابه بين مصر وهذا البلد البعيد. فما حدث فى فنزويلا خلال العشرين عاما الماضية يلخص ما حدث فى مصر خلال الستين عاما السابقة. فى التسعينيات القريبة وصل الضابط السابق هوجو شافيز للحكم فى فنزويلا. قام شافيز بتطبيق ما اعتبرها طبعة خاصة من الاشتراكية، أطلق عليها «الشافيزية» وهو ما يذكرنا بما حدث فى مصر فى الخمسينيات والستينيات، عندما قام الضابط الثورى جمال عبد الناصر بتطبيق الناصرية، باعتبارها الطبعة المحلية من الاشتراكية.

من بين المشتركات الكثيرة بين الطبعات المختلفة للاشتراكية تلك الأفكار والسياسات التى تقوم على اعتقاد مؤداه أن الحكومات تستطيع تجاهل قوانين العرض والطلب، وأن الاقتصاد يمكن إدارته وفقا لرغبات أولى الأمر الحاكمين، وأن القطاع الحكومى، والدعم الواسع النطاق، والتسعيرة الجبرية، يمكن أن تكون أساسا لسياسة اقتصادية سليمة، ترفع معدل النمو، كما ترفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة. وكما تم تأميم البنوك والشركات الخاصة فى مصر فى الستينيات، تدخلت الحكومة بقوة للسيطرة على الشركات والبنوك والمصالح النفطية فى فنزويلا. وكما تدهورت صناعات مصر ذات التاريخ المزدهر بعد وقوعها تحت سيطرة الدولة، تدهور القطاع النفطى فى فنزويلا، وتراجع حجم الإنتاج فى البلد الذى يضم أكبر احتياطى نفطى مؤكد فى العالم، فدخلت البلاد فى الأزمة العميقة التى تعيشها اليوم.

تحقيق تحسين سريع فى ظروف معيشة الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا هو الوعد الأكبر للاشتراكية. التعليم والعلاج المجانى والتوظيف المضمون لكل خريجى الثانويات والجامعات كان هو الإنجاز الاجتماعى الأكبر للاشتراكية الناصرية، ولكن قبل أن ينقضى عقد السبعينيات كانت كل هذه الوعود الاشتراكية قد تبخرت، بعد أن عجزت الدولة عن تدبير النفقات اللازمة لتغطية النفقات الهائلة للتعليم والرعاية الصحية والوظائف المضمونة. ولأن أحدا لم يملك الجرأة لمواجهة الناس بالحقيقة، تركت خدمات التعليم والعلاج الحكومية لتتدهور، وتم تعيين الملايين فى وظائف حكومية لا حاجة لها، فتضخم الجهاز الحكومي، وتدهورت الخدمات التى يقدمها، وارتفع عجز الموازنة العامة، ودخلنا فى حلقة جهنمية لا تنتهي.

شيء مشابه لهذا حدث فى فنزويلا. فبعد وصوله لرئاسة البلاد بقليل ظهر الرئيس هوجو شافيز على شاشة تليفزيون بلاده وهو يعرض الثلاجات المدعومة من ميزانية الدولة، والتى سيتم توزيعها على الفقراء. اما الْيَوْمَ فان فقراء فنزويلا لا يجدون ما يضعونه فى هذه الثلاجات، بعد أن بات متعذرا بالنسبة لملايين المواطنين الحصول على الأساسى من الاحتياجات، مثل الغذاء وحليب الأطفال وورق التواليت وحفاظات الأطفال. فالسلع الأساسية شحيحة جدا فى الأسواق، والمتاجر المملوكة للدولة، والتى تعرض السلع المدعومة، لا تستطيع أن تلبى سوى احتياجات عدد محدود جدا من السكان. ومع أن أغلب هذه السلع متوافر فى متاجر القطاع الخاص، إلا أن معدل التضخم الذى تجاوزت نسبته 700% يضع هذه السلع بعيدا عن متناول الأغلبية الساحقة من المواطنين، الأمر الذى يبدو معه معدل التضخم البالغ أكثر من 30% فى مصر وكأنه معجزة اقتصادية.

تجاهد الحكومة فى فنزويلا للخروج من الأزمة، ولكن جهودها تدور فى حلقة مفرغة، خاصة بعد أن استهلكت الاحتياطى النقدى الكبير الذى كان متوافرا لديها، تماما مثلما حدث عندنا فى سنوات الارتباك الاقتصادى التى أعقبت ثورة يناير. حاولت حكومة فنزويلا تلبية الاحتياجات من خلال الإنفاق من الاحتياطى النقدى الذى كان قد وصل فى عام 2011 إلى 30 مليار دولار، وهو نفس الوقت الذى بلغ فيه الاحتياطى النقدى فى مصر 35 مليار دولار. وعندما وصل الاحتياطى النقدى فى مصر إلى أدنى مستوياته فى عام 2016، بما قيمته 15.5 مليار دولار، كان الاحتياطى النقدى فى فنزويلا قد انخفض إلى 16 مليار دولار. أما فى عام 2017 فقد وصل الاحتياطى النقدى فى فنزويلا إلى أقل من عشرة مليارات، بينما وصل الاحتياطى النقدى فى مصر إلى 31 مليار دولار، بعد أن عاود احتياطى مصر النقدى الارتفاع بعد تحرير سعر الصرف.

الخبراء يقترحون خطوات عدة لحل الأزمة الاقتصادية الخانقة فى فنزويلا، ومن بين ما يقترحونه تعويم العملة المحلية المعروفة باسم «بوليفار»، وهو ما ترفضه الحكومة الاشتراكية فى فنزويلا، متمسكة بتحديد سعر صرف العملة بطريقة تحكمية. وفقا لسعر الصرف الرسمي، فإن كل تسعة بوليفار تساوى دولارا أمريكيا واحدا، لكن فى فنزويلا لا أحد يهتم بالسعر الرسمى للعملة بعد أن وصل سعر الدولار الواحد فى السوق السوداء إلى ما يزيد على 5300 بوليفار. تسعة بوليفار هو السعر الرسمى للدولار الواحد، تماما كما كان السعر الرسمى للدولار عندنا قبل التعويم مساويا لتسعة جنيهات، فماذا لو أن قرار التعويم فى بلادنا تأخر حتى وصل سعر صرف الدولار فى السوق السوداء إلى 5300 جنيه، وهل كنا سنكون أفضل حالا عندها مما نحن عليه الآن؟

مات هوجو شافيز فى عام 2013 قبل عام واحد من الهبوط الشديد لأسعار النفط، تماما مثلما مات ناصر قبل أن تتضح معالم الطريق الاشتراكى المسدود، ولهذا ظل الرجلان يحتلان مكانة الأبطال بين جماهير الفقراء، وبقيت السياسات غير الواقعية التى ارتبطت باسميهما تتمتع بجاذبية كبيرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف