جمال سلطان
مكتبة الاسكندرية من سراج الدين إلى الفقي
أخيرا أصدر القضاء حكمه على الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الاسكندرية السابق ، وقضى بسجنه ثلاث سنوات ونصف مع تغريمه نصف مليون جنيه بتهمة الفساد المالي والإداري ، وإهدار عشرات الملايين من الجنيهات من المال العام والإهمال الجسيم في عمله ، وشمل الحكم عددا آخر من كبار موظفي المكتبة ، مثل رئيس القطاع المالي والإداري ومدير الشئون الإدارية ، وشمل الحكم العزل من الوظيفة .
هذه القضية كانت أطول قضية تقريبا في المحاكم خلال سنوات ما بعد ثورة يناير ، فقد تم تأجيل تلك القضية عشرات المرات حتى أوشك الناس أن ينسوها ، وكانت المجاملات السياسية والإعلامية والثقافية تمثل مظلة حماية لإسماعيل سراج الدين لمنع النشر عن تلك القضية ، فلم يتناولها إلا القليل في مصر ، وكنا قد تناولنا تلك القضية مرارا عبر صفحات المصريون: "من يحمي "إسماعيل سراج الدين" ؟!"
كما كتبت في هذه الزاوية أكثر من مرة عنها ، آخرها المقال الذي نشر العام الماضي ، بعنوان "مكتبة الاسكندرية .. الصرح الذي هوى"
قيمة هذا الحكم الحقيقية أنه أعاد الاعتبار لمجموعة من أنبل شباب مصر ممن كانوا يعملون في المكتبة ، ورأوا الفساد والمجاملات والشللية وإهدار المال العام ببذخ منقطع النظير وكأنها عزبة خارج رقابة الدولة ، ومنهم شعراء شبان ومثقفون واعدون ، فتقدموا ببلاغ للمستشار أمير أبو العز - رئيس نيابة الأموال العامة، اتهموا فيه "سراج الدين" بمجاملة مقربين منه بتعيينهم في وظائف وهمية كمستشارين له بمرتبات باهظة "دون حاجة ضرورية"، بالإشتراك مع رئيس القطاع المالي والاداري "السابق" للمكتبة.
وهذا بالإضافة إلى إهداره أموالا طائلة في تغيير السيارات الخاصة بالمكتبة خلال فترات وجيزه ، مع حرصه على شرائها من أحدث موديل، حيث وصل سعر الواحدة منها لمليون جنيه بسعر ذلك الوقت ، وهو ما يعادل ثلاثة ملايين بسعر اليوم تقريبا، وكذا التعاقد على إنشاء كافتيريات، ومطاعم، بساحة المكتبة، بالأمر المباشر، وتنظيمه سفريات خاصة فاخرة على الخطوط الجوية الأوروبية تحملت المكتبة تكاليفها الضخمة بالكامل.
عقب تقديم هؤلاء الشبان النبلاء للبلاغ إلى القضاء تم التنكيل بهم من قبل سراج الدين ورجاله ، وتم تقديم شكاوى "ملغمة" ضدهم تتهمهم بأنهم يتظاهرون ضد الدولة ويعطلون المصالح الرسمية ، فتم القبض عليهم حيث تعرضوا للسجن فترات طويلة قيد الحبس الاحتياطي ، قبل أن يتم إطلاق سراحهم وتبرئتهم مما نسبه لهم سراج الدين ، وكان المؤلم لهم ولكل حريص على هذا الوطن ، أن الشباب الذي تقدم للقضاء يطالبه بحماية المال العام ومعاقبة من أهدروه يتم سجنهم على الفور ، بينما الفاسدون مطلقوا السراح ويتمرغون في البذخ ويتوسدون أرقى المناصب ويحظون بالرعاية الرسمية الكاملة والدعاية الإعلامية أيضا .
ومن هنا ، كان هذا الحكم المهم هو بمثابة إعادة الاعتبار للشاعر عمر حاذق والثلة الطيبة الذين كانوا معه ، لقد أنصفهم القضاء ، وأثبت صحة كلامهم ، وأنهم كانوا الغيورين على المال العام والمخلصين للوطن ومصالحه .
صفحة سراج الدين طويت بإبعاده عن مكتبة الاسكندرية ، حيث صدر القرار الجمهوري بتولي الدكتور مصطفى الفقي رئاستها خلفا له ، والفقي مفكر مرموق ، تختلف أو تتفق معه ، إلا أنه لا يمكنك تجاهل أنه شخصية ثقافية مصرية مميزة ، ويحظى بقبول عربي واسع بين المثقفين ، كما أنه ديبلوماسي محنك ويمتلك شبكة علاقات ديبلوماسية دولية مهمة تساعده على إعادة إحياء الدور الدولي لمكتبة الاسكندرية ، كما أن مصطفى الفقي هو ابن الدولة ومؤسساتها ، وهذا ما يجعله قادرا على التواصل مع كافة قطاعاتها بما يخدم المكتبة ويعزز دورها ويذلل الصعاب أمامها .
شخصيا أتفاءل كثيرا بمستقبل مكتبة الاسكندرية مع مصطفى الفقي ، وأتمنى أن يبدأ عهده بتطهير المكتبة من الذيول المسيئة التي تركها سراج الدين ، والتي تراكمت عبر حوالي خمسة عشر عاما جثم فيها على قلب المكتبة وكان الآمر الناهي في كل تفاصيلها ، وأطفأ وهجها في السنوات الأخيرة وتقلصت نشاطاتها لأعمال شكلية صغيرة يمكن أن يقوم بها مؤسسات صغيرة من بضعة أفراد ، وذهب بريقها العالمي الذي علقت مصر عليه الآمال كثيرا عند اطلاقها ، حركة التطهير الإداري ضرورية في البداية ، والخروج من أسر الشللية التي قلصت دورالمكتبة وفاعليتها في السنوات الأخيرة مهم ، والانفتاح على التيارات الفكرية والثقافية مهم ، وأعتقد أن البداية ستكون بوضع حزمة خطط ثقافية جديدة متنوعة تحيي نشاط المكتبة في السنوات المقبلة وتعيد لها هيبتها والمكانة التي تليق بها.