الأهرام
بهاء جاهين
رحلة عائلة فقيرة
هذه رواية طازجة وإن لم تكن جديدة تماماً. فقد صدرت فى يناير 2015 عن الدار المصرية اللبنانية حاملة نفس عنوان هذه المقالة: رحلة العائلة غير المقدسة, وكاتبها هو الشاعر والقاص والروائى عمرو العادلى . وهو عنوان موح يحمل أكثر من معنى لمن قرأ الرواية. فمن ناحية, فيه رنة سخرية متحفظة متقشفة فى تهكمها, لأن العائلة التى تحكى عنها تعانى مما يسميه المصريون «الفقر الدكر».

لكن من أكمل الرواية حتى النهاية يلمس, منذ أول حرف فيها وحتى آخر حرف, مقدار التعاطف والحب الذى يحمله الكاتب, أو الراوى الذى هو الابن الأصغر لهذه العائلة, لشخصيات الرواية الذين هم أفراد العائلة, خاصة الأم والجد طُلبة؛ فتشعر أن عبارة «غير المقدسة» لا تحمل من السخرية قدر ما تحمله من عطف على تلك الكائنات الأرضية التى تدب وتسعى وتلتقط من فضلات الأرض ما يسد الجوع ويستر البدن. وهو عطف يصل بالقارئ - فى حالة الأم بالذات - إلى الإعجاب ببطولة كفاحها الدؤوب المعجز, لكى تكسو وتطعم من لا شىء, أو ما يكاد يكون عدماً, أسرة من ستة أفواه وأجساد ونفوس تكلأها بحكمتها الأرضية وحنانها. الرواية من أولها لآخرها تمجيد غير معلن لهذه الأم؛ تلمسه بين السطور (كلمات السرد المحايد وحوار الشخصيات), ولا يتوقف الراوى عن سرده للحظة ليعبر عن إعجاب أو تمجيد مباشر صريح لهذه الأم.

أما الأب فيمتزج فى موقف الراوى منه بعض النقد و«السخرية الحنون» -إن جاز التعبير - مع الحب والعطف. وفى كل الأحوال هناك الكثير من الفهم والتسامح إزاء تلك الكائنات الأرضية محدودة الرزق والفطنة والقدرة, بكل حماقاتها وأشواقها وأخطائها الإنسانية, وحبها للحياة حتى آخر رمق, رغم أنها تسكن على ضفاف المجارى وسط الحشرات والفئران والثعابين والروائح الكريهة. إنها عائلة «غير مقدسة», لأنها تتكونّ من بشر غير معصومين, بهم كل عيوب البشر وفتنتهم, نرى فيهم أنفسنا رغم فقرهم الاستثنائىّ, ونحبهم لأن الكاتب أحبهم ووصفهم لنا ببساطة وبصيرة نفذت إلى جوهر المشترك الإنسانى بيننا وبينهم, وفى الوقت نفسه توغلت فى أبعاد مأزقهم الاجتماعى, كعائلة تنتمى إلى القاع السحيق للغارقين تحت خط الفقر فى بلادنا.

يصف لنا العادلى رحلة هذه العائلة, من بيئة صعيدية مملقة, للقاهرة بدافع الطموح لرزق أوفر, وتخبطها فى مسعى الحصول على مسكن, حتى انتهى بها الحال إلى عزبة عشوائية هى أرض للحكومة على هامش العاصمة. فبنى الأب بيتاً من مادة الأرض المحيطة به وما يتناثر فيها من حطام, ومع الوقت تسلل إلى نفسه فخر المالك بمِلكه رغم بؤس مسكنه. ولكنّ الحكومة انتبهت بعد مرور بضع سنين لذلك «التعدى» بوضع اليد على أرض تخصها, فهجمت البولدوزرات بغير سابق إنذار وهدمت العزبة كلها. فانتقلت العائلة - بعد أيام فى العراء - إلى مسكن «العم الميسور» كما يسميه الراوى دائماً كلما جاء ذكره. وكلمة «ميسور» هنا نسبية؛ فالعم يعمل مساعد أمن بمطار القاهرة, بينما الأب عامل تليفون (سويتش) بمستشفى قصر العينى.

ومن مسكن العم جاءت النقلة الثانية فى الرحلة؛ فانتقلت الأسرة إلى كشك إيواء من معدن الصاج, الكشك 13 فى قرية أو مستعمرة الإيواء المجبولة من نفس المعدن, كمحطة مؤقتة دامت ثمانية أعوام, ريثما يحصل رب الأسرة على شقة توفرها له الدولة. وتنتهى الرواية والرحلة بحصول الأسرة على عقد تلك الشقة.

هذا هو العمود الفقرى للرواية؛ أما اللحم والدم فهو الشخصيات. وأستطيع القول باطمئنان وبلا تردد إن هذه الرواية تحتوى على شخصيتين مرسومتين بكثير من الحب والافتنان, هما شخصيتا الأم والجد طُلبة, بحيث جاء المنتج النهائىّ بأن تكونت لنا شخصيتان من أكثر شخصيات الإبداع الروائى فتنة. ولكى تغترف عزيزى القارئ من تلك الفتنة, فإنى أنصحك أن تقرأ الرواية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف