الوطن
د. محمود خليل
صناعة الفشل (5)
ثلاث قواعد يمكن الاستناد إليها إذا شئنا الخروج من نفق الفشل إلى منصات الدول الناجحة. الوسيلة الأولى «الاحتكام إلى الكفاءة عند الاختيار»، والثانية: «تفكيك الاحتكار»، والثالثة: «مقاومة الفساد». تعالوا نبدأ مناقشة أهمية وأبعاد قاعدة «الاحتكام إلى الكفاءة» بتلك القصة التى يعرفها الجميع عن الجاسوس النائم الذى عمل سنين طويلة داخل الاتحاد السوفيتى لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. كل ما طلبه مَن يتولون أمر تشغيل هذا الجاسوس أن يختار «الأسوأ» من بين المتقدمين لشغل أى موقع أو منصب. قام الرجل بالمهمة على الوجه الأكمل، وأخلص فى اختيار «الأسوأ» كلما عُرضت عليه قائمة أسماء مرشحة لأى وظيفة أو مهمة، وخلال فترة زمنية لم تطل سقط الاتحاد السوفيتى وتفككت الدولة.

ضرب الكفاءة هو أقصر الطرق للدخول بالدول فى «نفق الفشل». الإنصاف يدعونا إلى القول بأن «ترجيح الأسوأ» منهجية لا تحكم مؤسسات الدولة فقط، بل تحكم المجتمع ككل، إلى درجة يصح أن نقول معها إن هذه المنهجية تشكل جزءاً من الثقافة العامة. على سبيل المثال الآباء والأمهات لا يمانعون فى أن ينجح أبناؤهم بالغش، وأن يعينوا فى أرفع الوظائف بالرشاوى والمحسوبية، ولا يخجلون من أن يغتصب أبناؤهم حق مجتهدين آخرين أكثر كفاءة منهم. مؤسسات الدولة تمارس بنفس الكيفية، لكنها تضيف إليها ما يمكن أن نطلق عليه «التقارير المرجحة»، والترجيح هنا لا يستند إلى معيار الكفاءة بل إلى معايير أخرى، من بينها مثلاً الولاء، وهو معيار مقبول إذا كان المقصود به «الولاء للوطن»، لكن دلالته هنا أبعد ما تكون عن ذلك، أضف إليه معيار «السمع والطاعة»، وتعطيل العقل عن الاجتهاد أو الإبداع، لأن المطلوب أن ينفذ الفرد ما يؤمر به فقط، ليس عليه إلا أن يكون موظفاً بدرجة «عبد المأمور» حتى ينال أعلى المراتب. وتقديرى أن فكر الموظفين هو أكثر ما أهلك هذه الدولة وأرهقها، الموظف المصرى المثالى يمتاز بكل الخصال التى ترتجيها فيه المؤسسة التى يعمل بها، وأهم خصلة يجب أن يمتاز بها هى «البطالة العقلية».

مجتمعنا يصف نفسه بالتدين، هذا الوصف غير دقيق، الأصح أن نصف أنفسنا بـ«التعرّب»، نحن تعرّبنا، وورثنا الكثير من القيم التى تحكم حياتنا من تجارب الدول التى حكمت بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم. قيم العروبة تمكنت لدينا أكثر من قيم الإسلام. انظر على سبيل المثال إلى فكرة توريث الوظائف، وهى فكرة شائعة لدينا، وتضرب مفهوم الكفاءة فى الصميم، كل من يعمل فى مكان فى مصرنا المحروسة يريد أن يورثه لأنجاله، أفلح الكثيرون فى ذلك، وكاد «مبارك» أن يفعلها حتى على مستوى رئاسة الدولة، ضع إلى جوار مسألة التوريث مسألة تولية الأقرباء فى المناصب والمواقع. هذه الأفكار موروثة عن التجربة السياسية الأموية، حيث تأسس مفهوم التوريث الوظيفى، بما فى ذلك وظيفة الحكم، وتعيين الأقرباء والأصهار فى مواقع الدولة المختلفة. هذه القيم العربية الرذيلة هى التى ترسخت فى التجربة المصرية، أما القيم الحقيقية للإسلام فلم تتمكن من عقلنا ووجداننا. وصدق الله العظيم إذ يقول: : «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف