التحرير
علاء خالد
كلنا عايزين سعادة
أستيقظ منذ أسابيع على صوت إسماعيل ياسين وهو يغني مونولوجه الطريف"كلنا عايزين سعادة، بس إيه هى السعادة، ولا إيه معنى السعادة، قوللى ياصاحب السعادة". هذا الصوت القوي المنزوع منه أى شاعرية أو طرب، الذى يخرج من موبايل زوجتي أثناء إعدادها للإفطار، ولكنه فى النهاية صوت مؤثر قوي به حكمة ربما بسبب بعده عن الشاعرية والطرب بمعناهما التقليدي. هناك شىء حقيقي داخل هذا الصوت يخدعك بأنه يعرف سر السعادة التى يبحث عنها، والبعيدة عنه قلبا وقالبا. أبدأ اليوم بإشراقة أمل تتحدث عن السعادة وترميها فى وجوهنا كلطشة مياه ساقعة. تشبِّه زوجتى هذا المونولوج بصورة كاريكاتورية، مثل فانتازيا أفلام المخرج الإيطالي فيلليني، التى تحدث فيها مبالغات فى واقع الأشياء والأفكار، فهناك نوع من التهكم فى الأشخاص وأدائهم والموسيقى المصاحبة لظهورهم على الشاشة، كما يحدث تماما في أغنية إسماعيل ياسين "صاحب السعادة". فالسعادة في الأغنية غير موجودة أصلا، وهذا الأداء التهكمي من إسماعيل ياسين والموسيقى البسيطة المصاحبة له، والكلمات؛ كلها تثبت غياب هذه السعادة، أو التهكم من رغبة الوصول إليها. وربما تنبئ أيضا بنموذج آخر من السعادة لم تتحدث عنه الأغنية، ولكنه أخذ يتضح مع الوقت. هناك نبرة حزينة في المونولوج، تضع يدنا بلطف على الشىء الهارب من حياتنا، رغما عن كل هذا يبعث المونولوج أملا ما وشغفا للحياة فى هذا الصباح الباكر. *** صوت إسماعيل ياسين الفريد الذى يسمح بهذه المساحة من التهكم فى المعنى، وجعله، المعنى، كيانا يصعب تقمصه حرفيا على مستوى النفس، ولكن فى صورته الكاريكاتورية. أي أن الصورة التهكمية للسعادة يمكن أن تكون، مؤقتا، مبعثا لسعادة غير مستحيلة أو غير حزينة. يأخذنا المونولوج خارج السياق التهكمي المباشر إلى سياق تهكمي جوهرى، يضعنا مع السعادة فى مواجهة بدون تفلسف زائد أو حزن زائد أو سخرية زائدة، فالتهكم يحمل أيضا إمكانيتي الوصول إلى السعادة وأيضا استحالته. ينكش المونولوج جسد السعادة، يعري جزءا منه، دون أن يمنينا بامتلاكها أو استحالتها. يخلِّف المونولوج فى النفس انتعاشة لطيفة، بالرغم من مباشرته وصورته الكاريكاتورية، لأن هناك شيئا أبعد من التهكم. أحيانا الأشياء الفجة والمباشرة تحمل أحاسيس هامة، إنها تصدم العقل المركب والملتف حول نفسه كقوقعة. *** مع نموذج إسماعيل ياسين، الإنساني والفني، نحن نملك هذا الحس الكاريكاتوري الطيب الذى نرى به الحياة، ومن خلال هذه الضحكة الساخرة المشهور بها، التى لا تعرف هل هى ضحكة فرحة أم باكية أو متحسرة أو خائفة، أو منسحبة. هى ضحكة توقيع، أكثر منها أي شىء آخر. مثل حركة عصا شارلي شابلن وتداخل قدميه. يجسد إسماعيل ياسين فى أدواره نموذجا كاريكاتوريا، صممه له رفيق رحلته مؤلف الأغاني والسيناريست أبو السعود الإبياري، يجسد فيه الطيبة الخالصة التى لاتشوبها أى شائبة، والقابلة لأن تنقلب على وجهها الآخر لترى الوجه الباكي لها، وهو الوجه الحقيقي لهذه السعادة المستحيلة.
***
سؤال السعادة وإيجاد تفسيرات وتعريفات لها كان منتشرا فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين وصولا إلى الخمسينيات والستينيات، بنهاية مرحلة الأحلام. وضمن هذا السياق الأخلاقي الحالم ظهر فن المونولوج الذى عادة ما كان ينتقد ظواهر اجتماعية، ليصل إلى الكمال، ويبحث عن مطلَقات غائبة عن الحياة اليومية، وعن أفكار إنسانية خالدة مثل السعادة والقناعة والحب. ***
فى مونولوج "صاحب السعادة" الذي لحنه إسماعيل ياسين، وكتبه أبو السعود الإبياري، شريك إسماعيل ياسين فى كل شىء: النجاح، وفي الفرقة المسرحية التى كوناها سويا، وفي الأفلام وكلمات المونولوجات التي كتبها له، وشريك أيضا في صناعة "نموذج" إسماعيل ياسين ذاته، الذى صنعه على الشاشة وتداوله الناس، وأصبح جزءا من خيالهم الجمعي. في المونولوج هناك "صاحب للسعادة"! يلجأ المؤلف للمفارقة في استخدام اللقب، فهو أحد الألقاب التي تطلق على أفراد الطبقة الاجتماعية العليا فى ذلك الوقت، الذي من المفترض، وهو الوجه ألاخر للمعنى أن يمتلك مفاتيح السعادة ليوزعها على الآخرين. فى النداء وسؤال "صاحب السعادة" عن معنى السعادة تلمح تهكما خفيفا، على هذا الشخص صاحب الطبقة الاجتماعية العليا، الذي برغم تفوقه الطبقي، لا يعرف معنى السعادة كما سيفسر المونولوج بعد ذلك. *** يبحث المونولوج دائما عن السعادة فى المكان الاجتماعي الخطأ: فى اكتناز الفلوس، وأيضا فى الغرام، ثم فى النهاية في الزواج المقدس. وكلها بحث عن السعادة الاجتماعية الزائفة، التى تعتمد على المظهرية والاكتناز والنفاق. ولكن يظل هناك نوع آخر من السعادة، وجهها الباكي، الذى لا يتهكم عليه إسماعيل ياسين. تلك السعادة الزاهدة، القانعة، التى تتحقق فى البعد عن المظاهر، وفى الإخلاص وعدم النفاق، وفى مقاومة عبادة الجنيه، وفي تطهير النفوس. سعادة قريبة فى هدفها من المعتقد الديني. *** هذا البحث اليومي عن هذه السعادة التى نسيناها، حتى من قبل إسماعيل ياسين وعقود الأحلام فى بدايات القرن العشرين، ولكن ظل التساؤل عنها مشروعا وملهما أيضا، كأننا ورثنا حملا أكبر من قدرتنا على تحقيقه، مثل فكرة الكمال تماما، التى لم نزرعها فى عقولنا عنوة، وإنما جاءت من تصورات للخلق، ومن الله، ومن مذاهب إنسانية، كلها كانت تسعى للكمال دون أن تعي أنها مهمة مستحيلة، فصارت تسخر منه وتتهكم عليه، وخرجت من هذه السخرية والتقمص: دراما وروايات وأغانٍ وأدوار حياتية. ربما مونولوج "صاحب السعادة" له نفس المصير، ويحمل قدرا من السخرية من السعادة، ولكن دون امتهان لها، أو انتقاص من قيمة الصفة والمعنى، كما سيحدث بعد ذلك فى عقود تالية ستتخلى تماما عن أى معنى مطلق يأتى من هذه العوالم المثالية. *** أبدأ يومي وأنا أحمل هذه المخزون المفاجئ للسعادة بداخلي، وربما هو السؤال الذى ما زال يقفز فى كل مراحل حياتى ولكن بصورة مختلفة. لازلت أبحث عن هذه السعادة، وأصبحت أشم نسائمها ولكن ربما بطريقة عكس طريقة إسماعيل ياسين. كنت أبحث عنها فى البداية في "الإيمان"، ثم بحثت عنها في "الاتساق" بين داخلي وخارجي. ثم تطورت، ولم يعد "الاتساق" كافيا، لصعوبة تحققه، كما تمنيت، بعد أن اكتشفت زوايا وأحراش وصحراء ومحيطات وطبقات هذه النفس التى أحملها. واكتشفت أيضا مدى تعقيد الواقع الذى نعيشه. فبدأت أركز أكثر على "السياق" الذى يجمع كل هذه التناقضات الحيوية بين داخل وخارج النفس. ربما هذا السياق الواسع هو الذى ستتفجر من بين ثناياه السعادة والشقاء معا، والذي يتخذ من الخيال أحد أهم مصادره. *** "الكورس"، فى المونولوج، وهو يردد "كلنا عايزين سعادة"، أشعر بقشعريرة منه، كأننا فى مظاهرة من أجل السعادة. أشعر أن السعادة مثل الخبز، مثل الماء، مثل الهواء، مثل العدالة، مثل أى شىء يجب أن يتاح للجميع، وخاصة الفقراء، لأنه من ضمن أساسيات الحياة. "الكورس" هنا وفى أى سياق أو وسيط آخر، يمثل الصوت الآخر: الشعب أو الجموع أو الآخر الجمعي؛ الذى يقف أمامه الفرد منتظرا التأييد أو الرفض، أو الحوار. ذلك الآخر الذى يكشف داخل الفرد عن جذور هذه التساؤلات البديهية التى تختص بحياته وموته وسعادته.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف