«الاحتكار» جزء لا يتجزّأ من صناعة الفشل. وجود الاحتكار داخل أى مجتمع يفتح الباب واسعاً أمام ألوان مختلفة من الإخفاق السياسى والاقتصادى والفكرى والمعرفى. أخطر ما فى الاحتكار أنه يحطم الإنسان، حين يدفع به إلى السقوط فى بئر الإحساس بالعبودية وإهدار الكرامة وانعدام القيمة واهتزاز الثقة بالذات. أنّى لعبد مملوك أن يسير فى طريق نجاح؟. إنه أعجز ما يكون عن أى شىء. يقول الله تعالى: «ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».
العبد المملوك لا يقدر على شىء، لأنه يعيش بنفسية مشوهة وعقل معطل. دعنا نضرب مثلاً على ذلك بأسرة تتكون من أب وأم ومجموعة من الأبناء. تخيل أن الأب فيها لا يمنح أياً من أبنائه فرصة للحديث أو إبداء الرأى، ويدير كل شأن من شئون الأسرة بمعرفته، ويفرض على الجميع أنواع الطعام والأزياء والنّزهة والتعليم، ينظر إليهم كمجموعة من المنفذين للقرارات، ويضع فى حِجر زوجته كل المال اللازم للإنفاق على الأسرة، ويجعله حكراً عليها، لتنفق منه تبعاً لتوجيهاته، ولا تمنح أياً من أبنائها حق المشاركة فى اتخاذ القرار، سوف نفترض أن جميع القرارات التى تصدر عن الأب المحتكر سليمة وصحيحة، وكل آرائه سديدة ووجيهة، لكن هل يمكن أن نراهن -رغم ذلك- على أن الأبناء سيخرجون أسوياء من هذه الأسرة؟. صعب!.
الدولة الناجحة لا تعرف فكرة «الاحتكار السياسى» ولا تعتمد مفهوم «الصوت الواحد»، بل تنطلق من مفهوم «التعدُّدية»، وتؤكد حق المواطن فى الاختيار الحر، دون ضغوط، ومن غير مراوغات أو مخادعات. لم يكن هناك زعيم يحبه الشعب قدر ما أحب جمال عبدالناصر، لكنه أسهم -بغير قصد- فى تحطيمه. التجربة الناصرية كانت تعتمد على مفهوم «الواحد»، التنظيم السياسى الواحد، والصوت الإعلامى الواحد، وصانع القرار الواحد، كان «ناصر» مخلصاً للشعب كل الإخلاص، لكن نهجه السياسى القائم على احتكار القرار أدى إلى وقوع مصر فى براثن نكسة حطمت أجيالاً متتالية من أبناء هذا الشعب، ولم تزل تمارس تأثيراتها السلبية حتى الآن.
الدولة الناجحة لا تعرف «الاحتكار الاقتصادى». الكل يعلم أننا عانينا وما زلنا نعانى من سيطرة عدد من الأباطرة على مجموعة السلع والخدمات التى يحتاج إليها المواطن، بصورة جعلت كل محتكر لسلعة قادر على تسعيرها بالصورة التى يرتضيها، بغض النظر عن عدالة السعر. فهو يريد أن يربح كل ما يمكن ربحه، لصالحه من ناحية، ولصالح من يساعده على الاحتكار. لعلك تذكر أن من ضمن المبادئ التى قامت عليها ثورة يوليو 1952: «محاربة سيطرة رأس المال على الحكم». مر على الثورة الآن 65 عاماً. فهل تخلصت مصر من هذه السيطرة اللعينة التى تسهم فى إفشال الحياة بمصر؟. الكثيرون يتفقون على أن السيطرة زادت، ولم تثبت حتى عند المستوى الذى كانت عليه قبل الثورة. تفكيك الاحتكارات يُعد منصة انطلاق أساسية لأى دولة تريد الخروج من نفق الفشل إلى فضاء النجاح.