التحرير
نبيل عبد الفتاح
قصيدة الرفض.. قراءة فى شعر أمل دنقل كتاب للدكتور جابر عصفور (1/2)
فى إطار متابعتى كباحث فى المجال الثقافى، وأتابع ما يمكن أن نطلق عليه سوسيولوجيا الرداءة فى مصر، وعالمنا العربى، أو كان ما يسميه د.مصطفى الأشرف الجزائرى حقل الرداءة، أستطيع القول هذا الكتاب الهام جاء فى وقته تمامًا، لأنه يعيد إلى المشهد النقدى واحدًا من الشعراء الكبار، الذى كان يشكل أيقونة شعرية وعلامة ورمزًا على التمرد السياسى، وعلى بناءات سامقة للقومية المصرية، وللفكرة العربية، ولانهياراتها الكبرى. شاعر جاء من قلب تحولات كبرى فى بنية القصيدة والشعرية المصرية والعربية، وفى الوعى الاجتماعى والسياسى، ومن صعود فلسفات أطلت من انهيارات وإطلال ورماد الحرب العالمية الثانية، من الوجودية المؤمنة والإلحادية ومن معطف البيانات السوريالية، وسردياتها غير المألوفة فى الفن والفكر والفلسفة، وصحوة السرديات العبثية فى المسرح الأوروبى. جاء شاعرنا من قلب الموروث التقليدى الثقافوى فى بيئة المحافظة، ومن تطلع قومى مصرى لاستكمال توقها التاريخى للانخلاع من الموروث الاستعمارى بكل مكوناته وأجناسه ووحشيته وجروحه وآلامه القاسية. من ناحية أخرى ثمة قيامة زلزالية للفكرة العدالية والتوق الإنسانى للتحرر الوجودى من الضرورة وبُنى الاستغلال إلى الاشتراكية، فى صعود الإمبراطورية الفلسفية الماركسية. الكتاب يكتسب أهميته من استيعاب مؤلفه البصير بهذه المتغيرات المتعددة المستويات والأبعاد والتناقضات فى "قراءته" لشعر أمل دنقل، ومصطلح "قراءة" لا يفى بتواضعه وتحرره من القوالب المنهجية المدرسية، بالتحليل النقدى لشعرية أمل دنقل الذى قدمه د. جابر عصفور فى هذا المؤلف، ولكن يمكن اعتبار هذا الكتاب هو العمل النقدى الأقرب إلى فهم سوسيولوجية الحالة الشعرية -والأحرى الحالات- وتجلياتها وتحولاتها لأمل دنقل. الكتاب يشكل عودة للقراءة والتحليل الإبداعى للشعر، ومن ثم لقراءة النقد التحليلى للإنتاج الشعرى، وذلك فى ظل تراجع نسبى لهذا النمط من الكتابة النقدية، ومن ناحية أخرى فى ظل هيمنة مقاربات ولغة واصطلاحات ألسنية، بعضها لم يستوعب أصولها النظرية المرجعية، ناهيك بتطبيقاتها المدرسية الممتحلة التى غشاها الغموض النظرى والركاكة، وسوء التطبيق والتحليل، فغادرها القراء النبهاء ذوو المعرفة والثقافة، ومن ثم لم تعد تؤثر فى فهم وتحليل البُنى الشعرية لأجيال متعددة فى الحياة الشعرية العربية، من الشعر الحر إلى قصيدة النثر المأسورة بين الذائقات التقليدية والمحافظة الاجتماعية، والثقافية والسياسية. كتاب يستعيد به كاتبه مجددًا ألق النقد وكشوفه. من ناحية أخرى، يُعيد اكتشاف شاعر ستينى كبير تألق فى مرحلته، وكان ملء السمع والبصر، ثم تعرضت تجربته لإعادة النظر من أجيال لاحقه، ونقدها الضارى لمشروعه الشعرى إذا جاز التعبير لا سيما فى ظل انفتاح الآفاق الشعرية أمام أجيال وتجارب جديدة منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى وإلى الآن، فى ظل صعود قصيدة النثر وتمددها. شاعر استفاد من فائض الحالة الرفضية -إذا جاز التعبير- والتمردية والثورية، لمثقفى اليسار من أجيال شقت عصا الطاعة على السراط التسلطى المهزوم، والمستمر فوق الانهيارات، والهزائم، والفشل، وموت السياسة، وموت المثقف فى بعض الآراء. من ثم نحن أمام عمل نقدى مهم. ويبدو من الأهمية بمكان تناول المقاربة المنهجية لهذا السّفّرّ الرصين، وذلك على النحو التالى: أولاً: المفهوم التأسيسى: قصيدة الرفض ينهض قوام هذا العمل النقدى على مفهوم الرفض، وقد سبق أستاذنا د. لويس عوض الإشارة إلى هذا المفهوم فى مقال له بالأهرام حول شعراء الرفض، ومن بينهم أمل دنقل، لكن ما قام به د. جابر عصفور هو تطوير نوعى لهذا المفهوم -"قصيدة الرفض"- حيث ذهب فى مفتتح كتابه إلى القول "لقد قام أمل دنقل بتأصيل قصيدة الرفض فى شعرنا المعاصر، وهى "القصيدة التى تكشف عن واقع الضرورة لتستبدل به عالم الحرية والعدل والمساواة وكانت هذه القصيدة صادرة دائمًا، عن مبدأ الرغبة وليس مبدأ الواقع، مبشرة بالعالم الأكمل، والأجمل، فالرفض فى هذه القصيدة فعل خلاق، لا يرضى بما هو كائن أو واقع، إنما يبحث عمَّا يجب أن يكون، وما ينبغى أن يقع. ولذلك فمملكته -دائمًا- فى العهد الآتى. لكن العهد الآتى دائما سَفَرّ فى الإمكان الأكمل، وليس نقطة وصول، إنه الحلم المستمر أبدًا، والبحث المتصل دائمًا، عن هدف متحرك، كل محطة وصول إليه هى حلم بالوصول إلى ما بعده. فالعهد الآتى هو الحلم الأكبر الذى يغرينا ما تحقق منه بالوصول إلى ما بعده - "ص 10، 11"- من أحلام لا تتوقف ولا تنتهى إلا بانتهاء الحياة نفسها. وهذا هو معنى الرفض الخلاق الذى تنتسب إليه "قصيدة الرفض" التى ينتمى إليها شعر أمل دنقل. وقد ظل هذا الشعر نقيضًا لحضور الدولة التسلطية فى زمنه، ورافضًا لكل صور الاستبداد والظلم والفساد والجبروت المقترنة بهذه الدولة. ولذلك لم يكن رفض هذا الشعر لغياب الحب والعدل والعقل والحرية، فى العالم الذى كتب فيه فحسب، إنما يمتد رفضه إلى عالمنا، بل إلى كل عالم تغيب فيه مبادئ الحب الذى يعنى الإخاء والمساواة بين كل مخلوقات الله، والعدل الذى لا يتمايز فيه إنسان عن إنسان، أو مواطن عن مواطن، والعقل الذى هو أداة مخلوقات الله لمعرفة الحق والحرية والخير والجمال على السواء. هكذا يَعْبُر أمل دنقل زمنه إلى زماننا، بل إلى كل زمن يحتاج إلى الحب والعدل والحرية والعقل الذى هو قرين العلم". (أنظر د. جابر عصفور: قصيدة الرفض، قراءة فى شعر أمل دنقل، ص 10، 11 الناشر الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2017). مفهوم الرفض فى الشعر وفق هذا التعريف يقوم على ما يلى: 1- الانطلاق من مبدأ الرغبة وليس مبدأ الواقع.

2- الرفض فعل خلاق لا يرضى بما هو كائن، إنما ينطلق إلى ما ينبغى أن يكون. 3- الرفض الحلمى مستمر، وبحث متصل دائما عن هدف متحرك، كل وصول إليه هو حلم بالوصول إلى ما بعده. 4- الرفض هو أحلام لا تتوقف ولا تنتهى إلا بانتهاء الحياة نفسها. نحن إذن أمام مفهوم دينامى، لا توقف له، ويمكن أن نطلق عليه أيضا رفضًا ميتافيزيقيًا، فى غموض أهدافه ومآلاته، المستمدة من الغموض الخلاق للمخيلة الشعرية، وعوالمها المحلقة، وهو انطلاق من عالم الضرورة إلى آفاق عالم الحرية والعدل. من ناحية أخرى تُعد تجارب وتمرينات أمل دنقل الشعرية الباكرة تعبيرًا عن محمولات الضرورة الاجتماعية وسلطة الأخلاق السائدة! أميل إلى القول إن قصيدة الرفض هى أوسع نطاقاً ومضمونا ودلالة ورحابة بلا حدود، فثمة رفض سياسى للأبنية والهياكل السياسية التى تتحكم بمفهوم القوة فى المجتمع وغلواء السلطة والقمع الغشوم ومصادرة الحريات، وموت السياسة، ورفض اجتماعى لبنية الاستغلال "الطبقى"، وسياسات التوزيع، ورفض دينى أو ضد دينى لبنية الموروثات الوضعية التى توظفها السلطة الدينية التسلطية فى السيطرة على إيمان الإنسان، أو لا إيمانه لقمع الحرية الدينية. ثمة رفض فلسفى لبنية المقولات الأيديولوجية، والشعارات الخشبية ومعتقلاتهم. ثمة رفض كينونى لمعيقات الشرط الإنسانى الوجودى. مفهوم رحب، يبدو غامضاً إذا شرعت أبوابه إلى آفاق لا حدود لها، ومن ثم أحسن الناقد الكبير بربطه بسياقات تطور شعرية آمل دنقل. نحن إزاء مفتتح تأصيلى مترع بالتناصات بين لغة النقاد البليغة ولغة الشاعر الشاعرة، حيث السلاسة اللغوية والأسلوبية والسردية المركبة والمشرقة، وتداخل بين لغة الناقد ولغة الصديق المحُب. يمكن القول إن السّمتُ المائز للكتابة النقدية لجابر عصفور هو خروجها على الخطاب النقدى/ المدرسى (الأسكولائى) الذى ينصاع إلى اللغة النقدية المدرسية/ الخشبية Langue de bois، والتى تخضع وتستكين للمفاهيم والمصطلحات والمقاربات النظرية السابقة التجهيز، أو تلك التى صيغت فى تطور الأدب الأورو- أمريكى، والعالمى، وتسقطها على السرديات موضوع البحث والتحليل، ومن ثم تعيد إنتاج ذاتها المدرسية/ الخشبية، ومن ثم تعانى من ألم شديد وعسر فى استخدام قدراتها التفسيرية على تحليل وتقصى وإنارة السردية موضوع المقاربة. من هنا نحن إزاء سردية نقدية مبدعة تجاور وتتداخل مع سردية المبدع الشاعر، وتحاول إبداعيا فهمها وتفكيكها وتحليلها واستكناه دواخلها، وصولاً لقراءة منابع الجمال والتفرد داخلها، أو بيان الأعطاب البنائية فى تكوينها، وحالت دون اكتمالها، إذن نحن إزاء سردية مبدعة creative narrative. (وللحديث بقية)

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف