اسماعيل حلمد
الفراعنة بين التوحيد والوثنية في ميزان القرآن والسنة
يروج البعضُ لأفكار تحتاج منا إلى إعادة النظر فيها، لأنها تحمل فى طياتها إفتراءاً فجاً على مصر، وشعبها. فكثيرون يزعمون أن المصريين القدماء (أو الفراعنة) كانوا أهل كفر وضلال، وأنهم آذوا أنبياء الله. ويعتقد هؤلاء أيضا أن الله تعالى ذم مصر ولعن شعبها فى القرآن، فأهل مصر هم آل فرعون، وهم قوم سوء استخف فرعون بعقولهم، وأطاعوه على كفره، وصلفه. وقال الله عنهم: "فاستخف قومه فأطاعوه"، وقال: "وحاق بآل فرعون سوء العذاب" ، "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"، وغير ذلك من الآيات التى تقدح حسب زعمهم فى المصريين، وتذمهم. لكن الحقيقة التى نؤكدها جلية أن هذه الآيات الشريفات لا تعنى أهل مصر، بل قُصد بها قوم فرعون فحسب، وهم حاشيته ورجال بلاطه، والمقربون منه ممن آمنوا بألوهيته المزعومة، ولم يشر اللفظ القرآنى قط إلى عموم المصريين. ويؤكد ذلك، قوله تعالى: "وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين"، وهى آية فاصلة فى دلالتها تؤكد أن فرعون لما غرق فى اليم، غرق معه قومه وحاشيته من أهل السوء، ولقوا مصيره. ولو كان لفظ آل فرعون يعنى شعب مصر، لكان المصريون جميعًا قد غرقوا معه، وهو ما لم يحدث قط. ولعل تلك الآية الآنفة تميط اللثام عن هوية آل فرعون ومن هم تحديدًا حتى لا يخلط البعض بينهم وبين أهل مصر إلى حد جعل بعض المصريين يمقت لفظ الفراعنة، ولا يحب الإنتساب إليهم، لأنهم ملعونون فى القرآن حسب ذلك التأويل. واللافت أن القرآن ذاته يتحدث عن كثيرين من أهل مصر ممن ينتسبون لفرعون بالثناء، مثل (امرأة فرعون) - واسمها آسية بنت مزاحم - وهي التى ضرب الله بها المثل فى الإيمان بين كل نساء العالمين، وهى من صالحات المصريين، وأثنى الله عليها ثناء عظيماً: "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتاً فى الجنة". وقال النبي (ص): "حسبُك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد". أما (مؤمن آل فرعون)، فهو رجل مصرى صالح - قيل: اسمه حزقيل - كان من أتباع موسى عليه السلام، وهو فيما يقال ابن عم فرعون، ومن أمراء البيت المالك، قال تعالى: "وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله"، "وقال الذى آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد". وقال بعض المفسرين أنه كان من الأنبياء. وفى الحديث الشريف: أن النبى (ص) شم رائحة طيبة فى الجنة وهو فى رحلة المعراج، فسأل جبريل: لمن هذه الرائحة ؟ قال: ماشطة بنت فرعون. وكانت الماشطة امرأة مصرية مؤمنة، عذبها فرعون حتى تترك دين الله، فأبت، فقتلها وأبناءها فى زيت مغلى، فجعل الله رائحة الزيت الذى قتلت فيه عطراً يفوح عبقهُ فى الجنة. ويوصى النبى (ص) بمصر وأهلها دون غيرهم، وقال:"إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما". وهو حديثٌ يؤكد فضائل مصر وشعبها، ويدحض فرية القائلين بأن القرآن ذم مصر وأهلها، فكيف يذم الله قومًا فى القرآن، ثم يوصى بهم نبيه ويدعو لهم ؟! وقد دعا النبى يوسف عليه السلام لأرض مصر بالأمان في القرآن الكريم، وقال: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". كما يؤكد أكثر المفسرين أن ملك مصر أيام النبي يوسف كان ملكاً موحداً، وهو ما يبدو من حديث القرآن عنه: "وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكينٌ أمينٌ". ثم عين هذا الملكُ يوسف وزيراً له، فهل يقبل الملك أن يكون وزيره موحداً، وهو كافر؟ بل كيف يقبل النبي يوسف عليه السلام أن يكون وزيراً لملك كافر يأتمر بأمره فيما يخالف الدين ؟ وفي سياق آخر، أهدى ملك مصر إبراهيم عليه السلام فتاة مصرية اسمها هاجر (المصرية)، فتزوجها، وهى أم أبنه إسماعيل عليه السلام أبى العرب. وقال الله تعالى عن "سحرة فرعون"، وهم يعلنون إيمانهم بالله: "فُألقى السحرةُ ساجدين. قالوا آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون". وهم مصريون عملوا بالسحر، ولما تبين لهم الحق أمنوا بالله رغم وعيد فرعون لهم. وتحدث القرآن أيضاً عن امرأة العزيز– وقيل: كان اسمها زُليخة - وهى تعلن إيمانها بالله، وبأن يوسف عليه السلام كان على الحق ولم يراودها عن نفسها، وقالت فيما يذكر القرآن:"الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين. وما أُبرىء نفسى إن النفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم". والشطر الأخير من هذه الآية الآنفة يؤكد أن هذه المرأة آمنت بدين الله، وقال بعض المفسرين إن يوسف تزوجها، وأنجب منها أبناء. تلك بعض النماذج الطيبة من الموحدين من أهل مصر الذين آمنوا بالأنبياء، وبدعوتهم إلى دين الله أيام الفراعنة. وهو ما يؤكد أن كثيرين من المصريين فى تلك الأيام كانوا على عقيدة التوحيد، كما كان منهم أيضاً عُباد الأوثان، غير أنهم لم يكونوا جميعاً أهل كفر حسب زعم البعض. ويكفى أهل مصر فخراً أن الله تعالى ذكرهم فى كتابه، وأثنى عليهم وعلى بلدهم في الكثير من آيات القرآن. كما تحدث النبى (ص) عن أهل مصر، وأوصى بهم صحابته خيراً، بل وتزوج منهم أم المؤمنين (مارية القبطية)، وهي أم ولده إبراهيم. ويكفي أن مصر أول دولة يحكمها الأنبياء، وهو يوسف عليه السلام، وعاش بها قرابة العشرين من الأنبياء ذكر بعضهم القرآن، وبها نزل أول كتاب من السماء وهو كتاب التوراة، وبها الوادي المقدس طوى، وبها البقعة المباركة، والشجرة المقدسة، وبها نزل أول طعام من السماء للبشر وهو المن والسلوى، وبها تجلى الله تعالى على جبل سيناء...الخ. ولو تحدثنا عن مناقب مصر الأخرى فى القرآن والسنة لطال بنا المقال، وإن شاء الله يكون لذلك حديث آخر...