المصريون
جمال سلطان
نسائم صيف .. عن الحرية والثقافة والمثقفين !
المناخ الثقافي في أمة من الأمم هو جزء من مناخها الحضاري العام ، سياسيا واقتصاديا وعلميا ودينيا ، لا يمكن أن تنمو ثقافة حرة ناضجة ومنفتحة ومتسامحة في مناخ سياسي مغلق وكئيب واستبدادي ، وكذلك لا يمكن أن يولد تيار ديني مستنير ومتجدد بالفعل ومتسامح وإنساني في ظل محيط سياسي أو اقتصادي قمعي أو ساحق لكرامة الإنسان أو مهدر لإنسانيته ، لأنه ينشر ضيق الأفق والعصبية والكراهية ، وهذا أمر شائع بين الأمم ، وقد لاحظت هذا الفارق في مصر عندما كنت أتجول في معارك المثقفين وحواراتهم وصخبهم في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي ، وقبل الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملك والنظام الديمقراطي القائم حينها في العام 1952 ، وكانت تلك الفترة من أخصب فترات الثقافة المصرية نضوجا وحيوية وعمقا وإبداعا وتسامحا أيضا ، وهي الفترة التي شهدت الرموز الكبيرة التي مثلت قوة مصر الناعمة ثقافيا لقرن كامل بعدهم على الأقل ، وهم تلك الرموز الذين ولد على أيديهم جيل آخر من التلاميذ برزوا في مرحلة الستينات والسبعينات ، قبل أن يتآكل الميراث وتدخل مصر إلى محاقها الثقافي ، حيث تحولت الثقافة والمثقفون فيها إلى ما يشبه وظائف إدارية ملحقة بأجهزة الدولة الأمنية .
ويدهشك أن هذه الحيوية التي عرفتها مصر كانت حالة عامة ، مناخا عاما شمل جميع المتناقضات الفكرية ، وليست حالة خاصة بتيار أيديولوجي معين ، فقد ولدت رموز عملاقة للفكر الديني مثل مصطفى صادق الرافعي والشيخ محمد الخضر حسين ومصطفى عبد الرازق وغيرهم ، كما ولدت رموز ليبرالية فذة مثل عباس محمود العقاد ، ورموز أخرى مبهرة تميل إلى استلهام التجربة الغربية لنهضة مصر مثل طه حسين ، وهناك شخصيات فذة اتجهت إلى الإلحاد وروجت له في كتاباتها مثل عبد الرحمن بدوي كما شهد اليسار المصري حديث المولد حينها عنفوانا فكريا وسياسيا ما زال يمثل المرجعية الأساسية للأجيال الحالية من اليساريين ، وفي هذا الحراك الثقافي والسياسي كان ينشط مسلمون ومسيحيون ويهود ، لا تكاد تفرق في الموقف الثقافي والسياسي بينهم .
كانت كل تلك التيارات تتعايش وتتدافع ثقافيا وفكريا ، وكل منها له أدواته ، من صحف ومجلات وجمعيات وندوات ، وكل منها يستظل بعباءة سياسية أحيانا ، فبعضهم ينضوي تحت عباءة الوفد ، والآخر مع السعديين وغيرهم في عباءة القصر ، كان المناخ السياسي العام في مصر أكثر انفتاحا وتسامحا ، ويقوده شخصيات مدنية رفيعة من كبار المحامين ورموز الفكر وعقلاء الأمة الذين انتزعوا استقلالا مهما وإن كان منقوصا ، بدون دم ، وحققوا طفرة اقتصادية ونهضة جعلت مصر ـ وهي تحت الاحتلال ـ تزاحم العالم الأول في الصادرات وفي مسارات التنمية وتعزيز الصناعة والزراعة وتقدم المساعدات لدول أوربية ، ويقصد جامعتها طلاب من اليابان وبريطانيا لدراسة تخصصات محددة من الطب والعلوم ، وكان الطالب العربي الذي يملك فرصة القدوم للدراسة في مصر يعود إلى بلاده عالما أو أديبا كبيرا أو قائدا سياسيا أو عالما دينيا يشار إليه بالبنان .
يحكي المحقق المصري الدكتور أشرف عبد المقصود ، أحد أهم دارسي تراث الشيخ أحمد شاكر ، أبرز وأهم أعلام التيار السلفي في مصر وقتها ، أن صداقة فريدة جمعت بين الشيخ أحمد شاكر ، العالم الديني السلفي عظيم التمسك بالسنة النبوية وعلومها وأحكامها وبين الدكتور عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الفذ ، رائد ثقافة الإلحاد حينها وأحد أهم الكتاب الملحدين ، وكانت بين الرجلين مكاتبات ، وكان بدوي يزور شاكر في بيته ويتسامرون ويتناول العشاء معه ، ويفترقان على الاحترام والتقدير ، وقد شاء الله تعالى أن تتغير بوصلة الوعي عند بدوي رحمه الله ، بعد ذلك بسنوات طويلة ، ليختم حياته ـ وهو في باريس ـ بدفاع عن الإسلام والقرآن والوحي والإيمان هو من أفضل ما قدم فلسفيا للقارئ الغربي بشكل أساس .
ومن لطائف ما كان يحدث في تلك المرحلة ، مرحلة الحرية والنضج والتسامح الثقافي ، ما يرويه الأستاذ محمد سعيد العريان رحمه الله في كتابه "حياة الرافعي" ، عن أن مدرسة مسيحية في طنطا كانت تعد حفلا كبيرا في ديسمبر من تلك الأعوام ـ في الثلاثينات من القرن الماضي ـ وكان الأديب والمثقف المسيحي الأستاذ جورج إبراهيم من أقرب أصدقاء الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ، أبرز من دافع عن القرآن والإسلام في ذلك الوقت ، فما كان من جورج إلا أن لجأ إلى صديقه الرافعي لكي يكتب كلمة أدبية بأسلوبه الجميل في تمجيد المسيح عليه السلام ، تقرأها فتاة مسيحية في المدرسة في الحفل الذي يحضره لفيف من النخبة المسيحية بينهم مثقفون ، فاستجاب الرافعي وكتب الكلمة التي قرأتها الفتاة في الحفل فأخذت لب الحاضرين وأبهرتهم ، دون أن يعرفوا أن كاتبها الأديب "المسلم" المعروف ، يقول سعيد العريان (وفي الشهر التالي كانت تلك الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في مجلة "المقتطف" منسوبة إلى الفتاة وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلا من الإنجيل) ، بل إن الواقعة لم تخل من المزاح من الرافعي لصاحبه جورج عندما سلمه الخطبة فكتب له عليها : (هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة ، فنقح فيه ما شئت ، واضبط لها الكلام ، وعلى الأرض السلام ، وفي الناس المسرة ، والمضرة ، والمعرة ، يا عم جورج !) .
تلك الأجواء المتسامحة والناضجة والأكثر انفتاحا في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة ، تبدو لبعض المثقفين الآن كأنها أحلام أو أوهام ، ولكنها كانت واقعا حقيقيا عاشته مصر ، أفرزت فيه الحرية والحكم الرشيد ـ على نقصه ـ هذا الإبهار الثقافي والديني واللاديني والليبرالي واليساري والإسلامي والمسيحي على حد سواء .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف