عاطف بشاى
إنهم يهبطون به من القمة إلى الأرض
«الحياة تصنع المأساة.. ولكن الفرح والابتسام هما الشىء الذى نخلقه نحن لنرش الماء على النار.. ونبنى أسواراً حول العاصفة التى فى داخلنا حتى لا نتركها تدمرنا وتقضى علينا..».
العبارة السابقة لـ«توفيق الحكيم» تمثل جانباً مهماً بل أساسياً من جوانب نفسه التى تشبه -والتشبيه لـ«رجاء النقاش»- نفوس «الراكبية».. هؤلاء البحارة الشعبيون الذين يشدون سفنهم على صفحة النيل من «أسوان» إلى «الإسكندرية» و«رشيد».. إنهم يغنون دائماً وهم يصارعون النيل والملل والريح والطريق الطويل.. لا ينطلق الحزن من داخلهم.. بل يظل حبيساً مختفياً.. فالحزن يغرق السفن ويطيل الطريق.. ويكتم أنفاس الرياح.
فالحقيقة أن «توفيق الحكيم» الساخر العظيم الذى استخدم الفكاهة والمواقف الطريفة والمفارقات ذات الطبيعة الكوميدية.. هو أكثر الأدباء حزناً وانطواءً.. وأعماله المسرحية والروائية يبللها حزن وعذاب نفسى عميق.. إنه نوع من الحزن الوجودى الفلسفى الذى يبحث فى سر الوجود والعدم.. ومغزى الحياة والموت.. وجدوى الحب والألم.. وصيرورة الكون ونسبيته.. وعذابات العقل البشرى وعجزه عن تفسير ظواهر الطبيعة الملغزة.. ومستقبل البشرية البائسة.. لذلك فإن مسرحه سمى بالمسرح «الذهنى» الذى يعتمد على «العقل» والجدل والأفكار وطرح الأسئلة التى اختلف فى الإجابة عنها الفلاسفة فى كل العصور.. ولكن من قال إن الفكاهة التى ينثرها فى مؤلفاته بل فى حياته الشخصية هى نقيض العقل؟!..
إذا كان الحزن دليلاً على المشاعر والعواطف الجياشة والمحتدمة فى القلب.. فإن الضحك دليلاً على المعرفة والفهم الذكى لتناقضات الحياة.. وسوء التفاهم الذى يجمع بين البشر..
إن الفرح والابتسام هما دليل على الرغبة فى احتمال الحياة.. وبديل للبكاء.. واستعلاء على الحزن والموت.. فعندما يبتسم الحزين ويبتهج المكتئب فكأنهما يقولان إننا طرف فى المأساة.. ولكننا قررنا أن نحتمل ونستمر فى السير ونحن ندرك أن الأشواك تملأ الطريق وفى ذلك عقل.
كما أن هذه الحقيقة هى السبب الذى جعل المصريين القدماء يحملون فى قلوبهم أمر الأحزان.. ثم يعبرون عن هذه النفس الحزينة بالفرح والنكتة..
لكن «أنيس منصور» يفجر قنبلة.. بقدر ما تثير الضحك والسخرية فإنها توجع القلب.. وتهز الوجدان.. وتكشف عن مفارقة كوميدية تراجيدية فى نفس الوقت.. ويفسرها «د. طه حسين» تفسيراً قاسياً.. لكنه شديد الواقعية..
القنبلة أن «توفيق الحكيم» اخترع نكتة أطلقها على نفسه أضرت به ضرراً بالغاً.. لأن الناس تمسكوا بها ليس لقيمتها الأدبية أو الشخصية أو الإنسانية.. ولكن حباً للنكتة أو حباً للتعالى على شخصية عظيمة هى شخصية «توفيق الحكيم»..
يقول فى ذلك «أنيس منصور» إنه حينما قرر التليفزيون الاحتفال بعيد ميلاد «توفيق الحكيم» سجل حلقة من برنامج فى مكتبه بجريدة الأهرام.. وبدأ كلام الحضور من الأدباء والأصدقاء عن مناقب الأستاذ فكانت البداية نكتة ونادرة وتوالت القفشات وكل واحد منا يحكى حكاية ويضحك والتليفزيون يسجل كيف عاش «الحكيم» بخيلاً.. وكيف أن الفتيات الصغيرات يدرن حوله وكيف هو سعيد بذلك.. وتقدمت أنا للتليفزيون أطالب بإلغاء هذا البرنامج.. وألغى.. فلم يكن ذلك تكريماً لأديب كبير.. إنما كان تهريجاً فى حضرة أديب كبير.. اشترك فيه عدد من الأدباء.. ولم ينتبهوا إلى أن هذا الذى حدث إهانة للرجل وإهانة لأنفسنا.. فالمطلوب أن نكون جادين فلم نكن.. وأن نؤرخ للرجل فكان ذلك هروباً من التاريخ.. وتحقيراً وتصغيراً للرجل..
أما تفسير «د. طه حسين» فهو أن «الحكيم» هو المسئول عن ذلك.. فهو قد ارتدى «البيريه» ليلفت النظر.. وأطال شعره وأمسك العصا.. وسحب وراءه حماراً، وأضاف إلى ذلك أسطورة أنه رجل بخيل.. ولا يهمه فى هذه الدنيا إلا الفلوس.. لكن الأستاذ «الحكيم» يفضل أن يكون إنساناً محبوباً لطيفاً ظريفاً.. وهو يجد متعة فى الحديث إلى الناس.. والناس يجدون ذلك أيضاً.. وهو بالفعل من أمتع المتحدثين.. فإذا تحدث فإنه يتدفق بالتاريخ والأدب والنوادر والذكريات.. ولابد أن نضحك.. ولكن ليس كل ما يقوله مضحكاً أو يبعث على الضحك أو من أجل أن نضحك..
و«الحكيم» له مقالات بعنوان «حمارى قال لى» ومقالات أخرى بعنوان «قالت لى العصا» والحوار بينه وبين حماره أو بينه وبين عصاه قمة فى العمق والطرافة والمتعة الذهنية..
وقد حدث أن عرضت مجلة «الاثنين والدنيا» القديمة صورة «للحكيم» مع حماره.. وطلبت المجلة من عدد من الكتاب أن يعلقوا على هذه الصورة..
فقال «كامل الشناوى»: إنه إعلان عن كتاب لـ«توفيق الحكيم».. وقال «العقاد»: يا حمارة «الحكيم» روحى لحماره..
وقال مصطفى أمين: «اختبر ذكاءك.. أيهما توفيق الحكيم؟»، وضحك «الحكيم» ومن بعده ضحك الناس، واحتفظ «الحكيم» بالحمار.. ويعلق «أنيس منصور» على ذلك.. بأن هذه الصورة التى تجعل الناس يحبون «الحكيم» ويشعرون بأنه مثلهم أو دونهم فى الطيبة والسذاجة، وأنه أضعف منهم أمام الفلوس، قد أخفت الجوانب المهمة فى حياة الرجل.. وفى فكره.. وفى أثره على الأدب العربى الحديث..
شىء غريب.. الناس يحبون أن تثير كتابات الأدباء الكبار ضحكاتهم وسعادتهم هرباً من أحزانهم.. لكنه حينما يسعى إلى ذلك ويثير البهجة فى نفوسهم المتعبة.. وأرواحهم المكدودة.. يكافئونه «بجزاء سنمار»، وبدلاً من أن يرفعوه على الأعناق ويضعوه فى حبات عيونهم.. يتراجعون بمكانته الرفيعة وقيمته الفكرية العظيمة.. ويهبطون به من قمته العالية أو «برجه العاجى» إلى أرض العامة من البشر.