تصريحات عديدة جاءت على ألسنة مسئولين تؤكد عدم وجود نية أو اتجاه لزيادة أسعار تذاكر النقل العام، قبل عدة أسابيع، كانت مثل هذه التصريحات تتردد من حين إلى حين، من بينها على سبيل المثال التصريح الذى جاء على لسان اللواء رزق على، رئيس هيئة النقل العام بمحافظة القاهرة، وقال فيه إنه لا يوجد هناك زيادة فى أسعار تذاكر أوتوبيسات الهيئة. كما صرح وزير النقل الدكتور هشام عرفات، عقب الزيادة الأخيرة فى أسعار الوقود، عدم وجود نية لزيادة أسعار النقل. بعد كل هذه التصريحات تم اتخاذ قرار بزيادة سعر تذكرة أوتوبيسات النقل العام بمقدار 50 قرشاً. وتزامن مع هذا القرار قرار آخر بزيادة أسعار مياه الشرب.
التقليد القائم على فكرة نفى الشىء ثم إثباته يشكل ملمحاً مميزاً من ملامح صناعة القرار فى مصر. تكرر الأمر فى مواقف عديدة، أستطيع أن أتفهم أن هناك قرارات معينة لا يصنعها المسئول داخل مؤسسة ما بمفرده، وأن ثمة أطرافاً أخرى لا بد أن يكون لها رأى وتوجيهات فيها، خصوصاً القرارات المتعلقة بزيادة الأسعار، لما لها من صدى وتأثير على حياة ومعيشة المواطن الذى أصبح الغلاء بالنسبة له هماً بالليل ومذلة بالنهار، لكن التنسيق واجب، واحترام المسئول لحدود تدخله فى صناعة قرارات معينة مطلوب، حتى لا يورط نفسه فى تصريحات تضعه فى مأزق أمام الرأى العام، فيندفع إلى كلام يزيد من إحساس المواطن بالاستفزاز. دعنى أضرب لك مثلاً على ذلك: مسئولون كثيرون علقوا بعبارة «تصب فى مصلحة المواطن»، على زيادة أسعار البنزين والسولار وتذكرة المترو وأخيراً زيادة سعر تذكرة النقل العام، ومياه الشرب. وجهة نظرهم بالطبع أن تحسين دخل الهيئات سيكون له مردود إيجابى على مستوى الخدمة، لكن المواطن يعلم -بالتجربة- أن العلاقة منبتة بين السعر والخدمة فى مصر، وأن شيئاً لا يزيد عليه فى مستوى أية خدمة يحصل عليها من الحكومة.. ما يزيد فقط هو الأسعار.
ليت المسئولين لدينا يفكرون لبعض الوقت قبل أن يطلقوا التصريحات التى تعد بعدم رفع الأسعار، قبل وقوع الواقعة، وكذا التصريحات التى تعد بتحسين مستوى الخدمة، بعد وقوعها. هذا الكلام يستفز الناس. اللهم إلا إذا كانت الحكومة تتصور أن المواطن لم يعد يكترث بالزيادات المتتالية فى الأسعار، وهو تصور غير صحيح، ويتناقض مع رؤية القيادة السياسية التى لم تنس فى مناسبات عديدة أن تحيى تحمل المصريين للأعباء الناتجة عن زيادة الأسعار. إذا لم ترحم الحكومة «جيب» المواطن، فمن اللياقة أن ترحم إحساسه ولا تستفز جهازه العصبى الذى يكاد يدمره غول الغلاء، أن ترحم عقله الذى تشبع بالتصريحات المتناقضة، والكلام وعكسه، وأرهقته التصريحات العجيبة من نموذج «رفع الأسعار فى مصلحتك».
المواطن المصرى اليوم يشبه الملاكم الذى يخوض مباراة متواصلة الجولات فى مواجهة الأسعار. فى مثل هذه المباريات عادة ما يمنح اللاعبان فترة راحة بين الجولة والأخرى، يلتقطان فيها أنفاسهما حتى يستطيعا المواصلة، الحكومة مطالبة بتطبيق قواعد هذه اللعبة وهى تتخذ قرارات رفع الأسعار.. «منح المواطن راحة فى مصلحتك يا حكومة».. ما دام كله «مصلحة»!