المصريون
جمال سلطان
وقائع ما جرى للمصريون في مطابع الأهرام
تتعاقد صحيفة المصريون مع مؤسسة الأهرام منذ ست سنوات لطباعة نسخ أعدادها التي كانت تصدر يومية ثم التي صدرت أسبوعية بعد ذلك بسبب ضيق ذات اليد بعد أن أرعبت الجهات الأمنية جميع المؤسسات الإعلانية فقرروا مقاطعتنا وحرماننا من أي مساحة إعلانية وشمل التحذير البنوك الوطنية بما فيها الأهلي ومصر والقاهرة والشركات الحكومية والخاصة ، وطوال تلك الفترة لا توجد أي مشكلات في الطباعة ، ونشهد بأن مطابع الأهرام من أكثر مؤسسات الطباعة في مصر انضباطا وجدية وسرعة في الإنجاز ، لكن الأشهر الأخيرة بدأت الصدور تضيق أكثر عند أصحاب القرار والنفوذ في الدولة ، وبدأ الأمر بقرار حجب موقع المصريون ضمن عدد من المواقع الأخرى ، على الرغم من أن المصريون صحيفة مصرية تصدر بترخيص قانوني من المجلس الأعلى للصحافة ، وموقعها هو عبارة عن نسختها الالكترونية ، وبالتوازي مع حجب الموقع بدأت عمليات تحرش بطباعة الصحيفة في مطابع الأهرام ، حيث تقوم جهة أمنية مجهولة بمنع الأهرام من طباعة الصحيفة ، دون أي مستند من القانون أو الدستور على النحو الذي سأوضحه لاحقا .
كان الأمر يمضي طوال الأسابيع الماضية على مستوى تعطيل الطباعة ثم "يتكرم" الضابط المجهول بالسماح بالطباعة بشرط حذف عدد من الموضوعات ، وأذكر أنه طلب مرة حذف مقال رئيس التحرير ، ومرة طلب حذف حوار مع الدكتور حسن نافعة ، ومرة طلب حذف حوار مع الكاتب المعروف جمال الجمل ، ومرة طلب حذف صفحة كاملة ، صفحة المحافظات ، والتي كانت عادية جدا التقت بأوائل الثانوية العامة وأسرهم وسألتهم عن المستقبل وبدا من بعضهم أنه محبط من المستقبل ، فرأى "حضرة الضابط" أن القول بأن الشباب محبط في مصر هو تهديد لأمنها القومي وإساءة للرئيس ؟! ، حتى كنا في هذا الأسبوع ، حيث قرر المصدر الأمني المجهول وقف طباعة الصحيفة بالكامل ، ولما استعلمنا من الأهرام "هو زعلان من إيه بالضبط" قالوا هو زعلان من الجرنان كله ! ، وجرت مفاوضات مع الجهة المجهولة ـ عبر وسيط أهرامي ـ من الواحدة ظهرا حتى الساعة التاسعة ليلا بدون أي أمل في تفاهم بعد رفض قاطع لطباعة الصحيفة ، فسحبنا مندوبنا من المطبعة .
هناك التباس عند البعض في مسألة حالة الطوارئ وأنها تمنح رئيس الجمهورية الحق في إصدار قرارات مكتوبة أو شفهية بفرض رقابة على الصحف أو وقف طباعتها ، وهو كلام غير صحيح ، وبطبيعة الحال فإنه حتى لو كان هذا صحيحا فإنه من المفهوم أنه يكون في أضيق نطاق ولا يكون تعسفا في استعمال السلطة ، وغالبا لا يستخدم أبدا كما حدث في فرنسا عندما فرضوا الطوارئ عدة أشهر بعد الأحداث الإرهابية ، وإنما تكون الرقابة أو المنع لأمر بالغ الخطورة واستثنائي ، أما ما يحدث في مصر فهو استباحة للمنطق والأعراف والسياسة ثم القانون والدستور ، لأن الدستور المصري ـ الذي أقسم السيسي على احترامه وحمايته ـ يحظر بشكل واضح وحاسم وصريح فرض أي رقابة على الصحف المصرية ، باستثناء حالة إعلان الحرب أو التعبئة العامة ، وهما غير مطروحين بطبيعة الحال الآن ولا حتى في المستقبل المنظور ، وفي نص المادة (71) يأتي حرفيا ما يلي : (يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز إستثناء فرض رقابة محددة عليها فى زَمن الحرب أو التعبئة العامة) .
والدستور هو أبو القوانين جميعها ، فحتى قانون الطوارئ لا يمنح رئيس الجمهورية ولا أي مسئول آخر الحق في فرض الرقابة على الصحف بأي شكل من الأشكال ، إلا في زمن الحرب ، غير أن الواقع الذي جرى في مصر يكشف عن أن عملية الرقابة المسبقة والاعتداء على الصحف مطروحة وتنفذ حتى قبل إعلان السيسي حالة الطوارئ ، وهناك صحف تم وقف طباعتها في الأعوام الثلاثة التي سبقت إعلان الطوارئ ، حدث مع البوابة نيوز ومع المصري اليوم ومع الوطن وحتى مع صحيفة الأهرام نفسها ومعنا أيضا في المصريون قبل حالة الطوارئ ، فالحقيقة أن ما يجري في مصر الآن لا صلة له بقانون ولا دستور ، هناك من يشعر بأنه سيطر على كل شيء ، ومن ثم هو يدوس على كل شيء وهو غير قلق من أي شيء .
لا يمكن أن نتجاهل الحقيقة ، وهي أن مصر الآن تعيش عصرا شديد الظلام فيما يخص الحريات العامة والحق في التعبير ، والعقليات التي تدير شئون الدولة في مختلف القطاعات ، وخاصة السياسة والإعلام ، تمتلك خبرات عسكرية محضة ، وهي خبرات تتقلص فيها مساحات التفاهم أو الحوار أو السياسة أو الإدارة المدنية ، هي خبرات لا تعرف سوى الأمر والنهي والسمع والطاعة وإعطاء التمام ، كما أن الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا ، وهو قائد عسكري انتقل مباشرة لرئاسة الدولة ، وضح من التسريبات التي نشرت أنه يشعر بقلق زائد من الإعلام تحديدا ، وأنه حريص على السيطرة الكاملة عليه وعلى صناعة ما أسماه "أذرعا إعلامية" لحماية نظامه ودعمه ، ورغم كل الضيق والقمع الذي تعيشه الصحافة والإعلام ، حتى الرسمي والخاص الذي تم "إخصاؤه" ففقد أي تأثير أو قدرة على الإقناع ، إلا أن السيسي دائم الشكوى من عدم تعاون الإعلام معه ، وأول أمس قال لإذاعة ألمانية أن حرية الرأي والتعبير في مصر مكفولة أكثر مما ينبغي ، وهو ما يجعلنا مضطرين للتأهب لاستقبال أيام أسود مما سبق ، لأن الواضح أن الأفق يضيق ، وكلما توتر صاحب القرار كلما ضيق الأمور أكثر ، وكلما شعر بالقلق كلما أغلق المزيد من المنافذ ، هو طريق فاشل قطعا بشهادة التاريخ وتجارب النظم المشابهة ، ويفضي إلى أن "يلبس في الحيط" هو ونظامه في نهاية المطاف ، ولكن المشكلة أنه حتى يصل إلى هذه النقطة تكون الكوارث قد حلت بالفعل بالصحافة والصحفيين والإعلام وكل مشتغل بالشأن العام وبالحريات بكل أبعادها .
لا أحب أن أصدر التشاؤم إلى القراء ، ولكن الصورة تستعصي على الكتمان ، فهناك رغبة واضحة لتفريغ مصر من السياسة والرأي الآخر وهناك رغبة جارفة في تأميم الشأن العام بكل أبعاده ونشاطه ومؤسساته ونفخ زائد في خطر الإرهاب ، ليتفرغ "الميدان" تماما للغة السلاح ، سلاح الدولة ضد سلاح الإرهابيين ، وبطبيعة الحال سيكون أي نقد للسلطة في أي شأن سياسي أو اقتصادي أو أمني أو إعلامي أو ديني أو حتى فني ، سيتم تصويره على أنه دعم للإرهاب ، وبذلك تقطع كل الألسنة ويجرم كل نقد وتخون أي معارضة ، وعلى الجميع أن ينتقلوا إلى مدرجات المتفرجين .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف