محمد السعدنى
حقوق الإسكندرية: صراع التقدم والرجعية
كلما كانت عناصر الإيجاب في الصورة أكثر من عوامل السلب كان التقدم، فالتقدم رؤية حداثية تساير حركة التاريخ، والتاريخ تقدمياً بطبعه، ولا يناقض حركته إلا رجعي. أقول هذا وفي مخيلتي صورة حقيقية شاهدتها بالأمس، وهي ذاتها صورة رمزية لصراع التقدم والرجعية، صراع فرضته ظروف الحياة وتحولات الفكر والسياسة ورسخته معطيات العصر ولغته ووسائطه وتكنولوجياته. صراع بين جديد يعافر حتي يشرق الفجر الجديد، وقديم يتشبث ويرفض الغروب. وفي الصراع تجليات النوروتخلفات الظلام.
الصورة الموحية كانت علي إحدي شاشات الفضائيات المصرية حيث يستضيف الكاتب الصحفي والإعلامي المثقف محمد الغيطي شبانا من طلاب الفرقة الرابعة في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية العريقة، يناقشون أزمة رسوب أكثر من سبعين في المائة من طلاب فرقتهم في مادة القانون التجاري، واتهامهم بتعمد أ.د. فريد العريني إسقاط الدفعة جراء حادث عارض في إحدي محاضراته حيث قامت طالبة بفرقعة بالونة، إنزعج علي إثرها الأستاذ الكبير سناً ومقاماً، وترك المحاضرة متوعداً الطلاب بترصدهم عند الإمتحان. قدم الطلاب تسجيلاً صوتياً لفريد العريني يقول لطلاب الفرقة الثالثة معلقاً علي هذه الواقعة: »رزعتهم إمتحان لو نجح منهم إثنين أو ثلاثة في المائة يبقوا يقابلوني». وهنا نسوق عدداً من الملاحظات رغم أنه كما يقول صديقنا الكبير شيخ المحامين رأفت نوار: هذا حديث ملمسه خشن، لكني مضطر للتعليق فكما يقول د. طه حسين: لابد مما ليس منه بد، ذلك أنني واحد من أساتذة جامعة الإسكندرية العارفين لقدرها، كما تجمعني بكلية الحقوق وأساتذتها أيام لها تاريخ، ولعلها من الكليات التي ساهمت بنصيب وافر في صنع مجد الجامعة بعطاء أساتذتها ونبوغ دارسيها، هي كلية نبغ في جنباتها رواد وأساطين للعلم والمعرفة، ومنهم فريد العريني نفسه وزمرة من كبار الأساتذة المرموقين لايزالون علي رأس العمل يؤدون في دأب وتمكن ورفعة وشموخ، ومنهم عميد الكلية أ.د. محمد طلعت دويدار الذي كان علي الخط يتابع مع الغيطي، وهو من هو، قامة وقيمة علمية سامقة. ولعلي مع زملائي من علوم الإسكندرية ساهمنا بقدر كبير في صنع مجد هذه الجامعة فكان لزاماً علينا الكتابة والتعليق. وفي تقديري فالأمر أكبر من أزمة عابرة يديرها عميد متمكن من علمه وكفاءة إدارته، كماتجلي في حواره الهادئ المسئول، ولم يكن العميد ظاهرة وحده في الموضوعية، إذ شاركه المذيع والطلاب بمن فيهم طالبة حيث ناقشوا قضيتهم بأدب واحترام للكلية والأساتذة، لاتجاوز لفظ أوانفلات انفعال. وكان د.العريني في تعليقه غير موفق، بدا منفعلاً مراوغاً، تمسك بالشكل في تجريم التسجيل الصوتي وهو محق قانوناً، لكن ما إن طالبه محمد الغيطي أن ينظر أيضاً في موضوع التسجيل الذي حمل ترصداً بالطلاب وتوعداً مرفوضاً للإيقاع بهم في الإمتحان، أغلق العريني تليفونه وخرج من المناقشة.
أعجبني منطق العميد حين أقر بمسئوليته وقال إن الطلاب اشتكوا من مادة أخري للدكتور يحيي كرم الذي تدنت عنده نسب النجاح تعاطفاً مع د. العريني فاستدعي العميد لجنة الممتحنين ونجح الطلاب الذين حصلوا علي ربع الدرجة ( 5 من عشرين)، وهذا ماتملكه الكلية قانوناً، كما اتفق مع د. العريني ذي الخمسة وسبعين عاماً علي مراجعة أوراق الطلاب، ومن لم تنصفه إجراءات الكلية فليلجأ للقضاء وهذا قصاري ما يستطيعه أي عميد.
وهنا لابد من محاسبة الأساتذة إدارياً إذ الإمتحان في ذاته ومشروعيته هو قياس لمدي تحصيل وفهم الطالب، فلا يمكن أن يحوله الأستاذ عقوبة وتأديبا. ولا يمكن للسقوط بالجملة أن تعلق مسئوليته في رقاب الطلاب، فالإمتحان في النظم الأكاديمية الحديثة له معايير ونظم تعبر نتيجتها لا عن جهد الطلاب وحدهم وإنما أيضاً عن توازن المنهج الدراسي وكفاءة تدريسه بما يراعي إدارة الوقت ومعايير التدريس الفعال وتدرج الأسئلة وتفاعل الطلاب وقياس معدلات استيعابهم علي مدار الفصل الدراسي والامتحانات التراكمية في »الكويز» و»الميدتيرم» وأعمال السنة وخلافه. وإذا ما راعي الأستاذ كل ذلك فلابد أن تأتي النتائج في إطار مارسمه العلم الحديث في رسومات بيانية لها معادلاتها ليكون الطالب المتوسط ممثلاً للشريحة الأكبر والمتفوقين والراسبين النسبة الأقل. وهذا برنامج نعلمه لكل هيئة التدريس إجبارياً.
كان الحوار ديمقراطياً وكان الشبان يمثلون المستقبل بلغة العصر ومعطياته، وكان العميد منصفاً وكان العريني وكرم مخطئين، وليس عيباً أن يناقش الإعلام ذلك كما ادعي دكتور نور فرحات في مداخلته، فنحن في عالم لا قداسة فيه إلا للقانون والدستور ولا أحد محصن من النقد. لقد كانت صورة موحية لصراع التقدم والمستقبل من جانب الطلاب، والرجعية من أساتذة تجاوزوا السن وروح العصر وعليهم بالرجوع للقواعد أو التقاعد.