المصريون
جمال سلطان
كيف خسرت السلطة رهانها في السيطرة على الإعلام ؟!
عمليات التضييق المتلاحقة على الإعلام والصحافة في مصر تتزايد بوتيرة سريعة هذه الأيام ، وأعتقد أن ذلك مؤشر على مستوى التوتر لدى صاحب القرار ، خاصة وقد دخل في السنة الأخيرة من فترته الرئاسية الأولى وهي سنة مقلقة وغامضة وسط أجواء من الإحباط الشعبي وشعور المواطن بتبخر كل الوعود السابقة ، كانت الأمور بعد 3 يوليو أخف وطأة ، وتم حصر الضربات في إعلام الإخوان وأنصاره ، كان هناك استدراج وصبر لترتيب الأمور فيما يبدو ، وفق تصور وخطة وضعت في دوائر ضيقة ، ولكن كان واضحا أن مساحة الحرية تتقلص تدريجيا ، وهو ما دفع عددا من الإعلاميين إلى اتخاذ قرارات بالهجرة خارج مصر ، مثل يسري فودة وباسم يوسف ، وهناك من تم إبعادهم ليكونوا حبيسي الصمت في الداخل ، وهناك من قبل أن يلعب مع اللاعبين الجدد ، على الأقل من باب أكل العيش ، وهناك من باع قناته الفضائية أو صحيفته لكي يستريح من الضغوط والتهديدات المبطنة التي لا تنقطع .
المشكلة في ذلك الأفق الضيق في النظر إلى الإعلام والصحافة الآن ، أنه لا ينتبه إلى أن المناخ الإنساني والاجتماعي والمعرفي اليوم يختلف عن ذلك الذي كان في الستينات مثلا أو حتى السبعينات ، فارق التوقيت هذا كان مهما لكي يدرك أصحاب تلك الرؤية أن عصر السموات المفتوحة ثم الانترنت ثم التواصل الاجتماعي كسر حواجز عديدة وعبر حوائط كثيرة كانت تضعها النظم السياسية للتعتيم أو لفرض رأيها الواحد على الشعب ، لم يعد هناك أهمية تذكر للقناة الأولى في التليفزيون مثلا ، ولم تعد هناك الهيبة القديمة للأهرام أو الصحف القومية مثلا ، ولم يعد هناك الكاتب الذي ينتظر العرب من المحيط إلى الخليج إطلالته الفخيمة على صفحات الجريدة لمعرفة ما يدور في مصر والعالم .
إهدار فارق التوقيت هذا هو السبب فيما نحن فيه في مصر الآن ، هناك من يتصور أن حجب الموقع الالكتروني داخل البلاد يكون قد أماته ودفن صوته ، وهناك من يتصور أن مصادرة الصحف أو منع طباعتها يخدم السلطة والسلطان ، وهناك من يعتقد أن السيطرة المطلقة على القنوات الفضائية داخل مصر وإخصاء إعلامييها وإخضاعهم للأمر والنهي والتوجيه المباشر والإملاءات الصارمة وتقليص مساحات الاجتهاد والخلاف لديهم سوف يحقق الرسالة المطلوبة في السيطرة على عقول الناس ، والمشكلة أن هذه التصورات والمعتقدات كلها خاطئة جدا وتؤدي لنتائج عكسية .
النتيجة التي نراها الآن ، وأعتقد أن كثيرين يرونها ، أن عقول المصريين عادت تتجه إلى الإعلام الخارجي لمعرفة حقائق ما يدور في بلدهم ، أو لمعرفة الآراء الأخرى ووجهات النظر المختلفة لتقدير الأمور ، أو حتى للتنفيس عن الكبت ، فبدون أدنى شك استعادت قناة الجزيرة والجزيرة مباشر حضورهما القوي في مصر بصورة لافتة ، بعد أن كان وهجها قد خف في السنوات الماضية ، إضافة إلى ظهور لاعبين جدد يتزايد حضورهم تدريجيا مثل النسخة العربية للتليفزيون الألماني حيث يقدم يسري فودة برنامجه ، كما أن القنوات المعارضة التي تطلق من تركيا أصبحت تحظى بنسب مشاهدة عالية للغاية وتتفوق بمراحل على قنوات مصرية كبيرة وقد أكدت ذلك استطلاعات مراكز بحث إعلامي متخصصة ، كما أن أهم شخصيات إعلامية في مصر الآن هما المهاجران : محمد ناصر ومعتز مطر ، وتحظى برامجهما بنسب مشاهدة هائلة ، ليس على المستوى الشعبي وحده ، بل حتى على مستوى النخب بمختلف اتجاهاتها السياسية والايديولوجية .
هذه كلها هدايا مجانية ، قدمتها السلطة لتلك الجهات الإعلامية الخارجية ، بعد أن قامت بإخصاء الإعلام المحلي ومحاصرته والتضييق عليه وصولا إلى موته إن استطاعوا ، كذلك فإن مواقع التواصل الاجتماعي تمثل أهم وأخطر أدوات الإعلام الحديث ، والقضايا التي تطرح عبر تويتر وفيسبوك تحقق ضجيجا إعلاميا هائلا وتصل للملايين في جزء من الثانية ، وكثير منها يتسبب في تغيير سياسات أو صدور قرارات كبيرة أو فتح تحقيقات في ملفات فساد أو خلافه كما أن كثيرا من البرامج الفضائية وأخبار الصحف تعتمد بشكل متزايد على ما ينشر فيها ، ويكفي أن تعرف أن رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم ، الرئيس الأمريكي ترامب ، يتواصل مع شعبه ـ ليس عبر القنوات الفضائية ـ وإنما عبر تويتر كل صباح ، وأصبحت القنوات الفضائية والصحف الأمريكية بكل هيلمانها وجبروتها تتابع تغريداته لمعرفة ما يفكر فيه أو حتى قراراته وهو يلاعبها من خلال تويتر ، كما أنه لم يعد هناك رئيس عربي ولا ملك ولا أمير إلا وأنشأ له حسابا على تويتر يتابعه ملايين ، بمن في ذلك الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه .
نحن في زمن مختلف ، وفي فضاء مختلف ، وفي عصر مختلف ، وأدوات وتقنيات مختلفة ، وما لم تدرك السلطة القائمة فارق التوقيت هذا ، وعاشت في ماضي خبراتها الأمنية ، فستؤذي نفسها قبل خصومها ، وتخسر القدرة على التواصل مع شعبها أو إقناعه ، مهما تصورت أن "المطبلين" الكبار والصغار لها في الداخل طوع أمرها ونهيها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف