زياد السحار
جمال القاهرة في "الخديوية".. والشعبية
مثل كل سكان القاهرة القدامي الذين ينتابهم الحزن والأسي عندما يشاهدون الأفلام العربية القديمة ويتذكرون ويتحسرون علي ضياع جمال وروعة ونظافة وهدوء عاصمتهم التي كانت تغسل "بالماء والصابون" وتضاهي أعظم المدن والعواصم في العالم.
أرقب -هذه الأيام- وأثمن غالياً جهود محافظها الجديد المهندس عاطف عبدالحميد واهتمامه البالغ في إعادة إحياء وتطوير ما يعرف بالقاهرة الخديوية القديمة في وسط العاصمة وإعادة ترميم العمارات التاريخية التي شيدت منذ أكثر من 150 عاماً بعد أن كادت تتآكل وتتهدم بفعل غياب الصيانة وهجرة أو موت ملاكها الأصليين واستيلاء بعض المؤسسات والمصالح الحكومية أو بيعها لرجال أعمال وتجار جهلاء لا يقدرون قيمتها حولوها إلي مخازن لقطع الغيار أو ورش لحرف وصناعات صغيرة كثيراً ما تجلب الضوضاء وتتسبب في الحرائق والكوارث البيئية.
وقد بدأت هذه المبادرة تتبلور الآن في منطقة التوفيقية وشارع الألفي الذي تم إغلاقه أمام السيارات وتخصيصه للمشاة بعد تجميله وتوفير الإضاءة والمقاعد للمتنزهين رغم تمدد و"استنطاع" بعض أصحاب المحال والمقاهي -كعادتهم- في كل الأحياء للاستيلاء علي حقوق المواطنين والخلط بين العام والخاص.
ولكن تبقي هذه التجربة الحضارية الجديدة كمنوذج نأمل أن يتكرر في كل الأحياء والمراكز والمدن في شتي ربوع مصر لعلها تخفف من الاختناقات المرورية والتكدس والزحام.
وقد نبهني زميلي الصحفي المخضرم محمد موسي المسئول عن تغطية شئون محافظة القاهرة أن هذه المبادرة العظيمة ترجع إلي زمن المحافظ الراحل الكبير الدكتور عبدالعظيم وزير في الفترة التي سبقت ثورة يناير 2011. ولعله بالفعل نشط ذاكرتي وجعلني أتذكر التجربة المماثلة في منطقة "الكوربة" في مصر الجديدة في ذكري الاحتفال بمرور مائة عام علي تأسيسها في عام 1906. حيث كانت ترعي هذه الاحتفالات قرينة الرئيس الأسبق مبارك من خلال جمعية مصر الجديدة للرعاية المتكاملة وتم ترميم وتجميل ميدان الكوربة وإغلاق شارع بغداد الممتد حتي قصر الرئاسة أمام السيارات في يوم الجمعة من كل أسبوع وتخصيصه لإقامة "كرنفال" احتفالي يتجمع فيه الشباب والصبية يغنون ويرقصون علي نغمات الفرق الموسيقية ويرسمون علي أرضية الشارع لوحات تعبيرية بألوان الشمع.. ورغم تأثير إغلاق هذه المنطقة علي حركة المرور خاصة في فترة الذروة المسائية إلا أن أهالي الضاحية وزوارها كانوا سعداء بهذه التجربة الحضارية.
ولكن لم يكن أحد يدري أن هذه التجمعات والاحتشادات ستتحول يوماً ما إلي أشكال مغايرة تماماً في فعاليات ثورية ولوحات جدارية استغلها النشطاء السياسيون إبان الثورة حولت الميادين والشوارع إلي فوضي عانينا جميعاً منها حتي عادت الأمور إلي طبيعتها واستقرت عقب ثورة 30 يونيو التصحيحية بعدما أشعرت الناس بالأمن والأمان وفتحت الطريق للتنمية والتطوير في شتي المجالات.
ورغم كل التحديات والمؤامرات الخارجية التي تحيط ببلدنا إلا أن الشعب حريص علي الحفاظ علي وطنه ويدرك جيداً محاولات إسقاط الدولة التي نجحت في دول أخري مجاورة مازالت تعاني.
وأتصور أن مثل هذا التطوير والتجميل لا يتوقف فقط علي مناطق بعينها في وسط العاصمة أو بعض ضواحيها. ولاسيما أن رئيس مصر لضيق الصلة بالطبقات الشعبية والمهمشة وقد تبني شخصياً العديد من المبادرات المجتمعية والحكومية في برامج وخطط سريعة وناجزة بالتعاون مع قواتنا المسلحة للتصدي لمشكلة العشوائيات وظروف الفقر والعوز للارتقاء بمستويات المعيشة غير اللائقة لمصريين يسكنون المقابر أو أسطح الجبال. ولعل مدينة الأسمرات شاهد عملي علي أن الفكر القديم قد تغير.
كما أن العمل يجري علي قدم وساق في كل المسارات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد سواء في مشروعات الإسكان الاجتماعي أو بناء العاصمة الإدارية الجديدة.
ولكن هذا لا يمنعنا بل يحثنا علي أن نذكر الحكومة وكذلك محافظيها أن هناك مشكلات ملحة لابد أن نجد لها حلولاً ناجزة مثل مشكلة الاختناقات المرورية التي تعاني منها كل أحياء القاهرة علي مدار الساعة. خاصة في المناطق الحيوية التي تزدحم بالأنشطة التجارية.
وما يزيد من المشكلة حدة هو تلك الإشغالات والاعتداء علي حرمة الأرصفة وأحياناً الشوارع بالمقاهي المنتشرة في كل مكان ومطاعم الوجبات السريعة بالسيارات التي تنتظر أمامها ليتناول أصحابها الأطعمة والمشروبات. علاوة علي إزعاج الموتوسيكلات ورعونة قائديها ممن يطلقون علي أنفسهم "الطيارين" لتوصيل الطلبات للمنازل.
وإذا أضفنا لذلك ظاهرة التوك توك التي انتشرت كالنار في الهشيم. خاصة في المناطق الشعبية ومزاحمة حركة المرور والمشاة وحولت السير في الشوارع إلي مغامرة غير مأمونة العواقب.
أما تحويل الجراجات والطوابق الأرضية إلي أنشطة تجارية ومطاعم وكافيهات دون ترخيص أو بتغاض من المسئولين في الأحياء.. فتلك ظاهرة أخري تثير الغيظ وتبعث علي الإحباط وتبدد الأمل في كل الجهود المشكورة في تطوير وتجميل العاصمة.
أما مشكلة القمامة وتراكمها وعدم الاهتمام بسكان المناطق والأحياء الشعبية. حيث لا يتوفر للكناسين الإكراميات السخية ولا يجد المسئولون في الأحياء من يحثهم علي أداء واجبهم من علية القوم.. فتلك وصمة عار في جبين العاصمة مهما تجملت وتزينت في المناطق السياحية أو الأحياء الراقية أو "وسطها" الذي نشهد له الآن بالرشاقة والجمال.
ولكن الجمال والتنسيق الحضاري كل لا يتجزأ وهو حق للمصريين جميعاً سواء للمترددين علي القاهرة الخديوية أو سكان الأحياء الشعبية والأزقة والحارات.