احمد عبد المعطى حجازى
حذار أن تتحول التاء إلى طاء!
يجب علينا أن نعترف بأن هذا الذى نعانيه فى جوانب حياتنا المختلفة ليس مجرد تقصير فى الأداء يمكن أن نعالجه بتشكيل لجنة أو بتغيير مسئول، وليس مجرد فشل طاريء يقع يوما فى هذا الجانب ويقع فى الجانب الآخر يوما آخر، وإنما هو أزمة شاملة نعانيها فى كل جوانب حياتنا. فى السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والاجتماع، والدين والأخلاق. فى أحزابنا السياسية، ومناهجنا التعليمية، وفكرنا الديني، ومؤسساتنا الصحية، وعملتنا الوطنية، ولغتنا القومية، وابداعاتنا الأدبية والفنية. وليس أمامنا إلا أن نقارن بين ما كنا فيه قبل نصف قرن وما صرنا إليه لنرى الصورة كاملة وندرك اننا نواجه بالفعل أزمة شاملة ربما لم نتفق بعد على تشخيصها أو تسميتها، لكننا متفقون فى الشعور بوجودها وبأنها خطر يهز كيان المجتمع ويهز كيان الدولة ويهددها بالسقوط.
والحقيقة أننا تأخرنا كثيرا فى الشعور بهذا الخطر وفى الحديث عنه، لأن هذا الذى نعانيه ليس جديدا ولا مفاجئا، وإنما هو تاريخ وأحداث وتطورات مررنا بها خلال العقود الستة الماضية التى كانت فى معظمها تراجعات وخسائر مكشوفة ومخفية. مكشوفة بطبيعتها حينا، ومخفية بطبيعتنا نحن حينا آخر. وقد ظلت هذه التراجعات وهذه الخسائر تتراكم حتى تحولت إلى أزمة خانقة امتدت واستمرت وصارت لها جذور وفروع، وظللنا نعانى منها دون أن نواجهها إلا باحتجاجات عفوية محدودة كانت ردود أفعال لما نعانيه من تأثيراتها السلبية فى حياتنا اليومية، ولم تتحول هذه الاحتجاجات إلى مواجهة شاملة إلا فى ثورة يناير التى عبر فيها المصريون عن وحدتهم وشجاعتهم، لكنهم افتقروا فيها لرؤية فكرية ناضجة تكشف فيها النتائج عن الأسباب وينبئ الحاضر عما يمكن أن يكون عليه المستقبل. نحن افتقرنا فى ثورتنا لهذه الرؤية الفكرية، كما افتقرنا لتنظيم سياسى يتبنى أهداف الثورة وشعاراتها المرفوعة ويسهر على تحقيقها، وهو أمر واقع لم يكن للمصريين منه مهرب، لأن النظام السياسى الذى ظلوا يعيشون فى أسره ستين عاما وأكثر صادر حرياتهم كلها بأجهزته المختلفة، وجردهم من القدرة على الوصول للمعلومات ومتابعة ما يجرى ومواجهته بالفكر والعمل. حل الأحزاب، ومنع النشاط السياسي، وراقب الجمعيات والنقابات، واستولى على كل أجهزة الاعلام، وقضى على النخب المثقفة، وحول المثقفين إلى موظفين.
من هنا تعرضت ثورة يناير للتزييف والسرقة على أيدى جماعات الاسلام السياسى التى تحالفت مع النظام الساقط وورثته واستولت بعده على السلطة، لكن المصريين تمكنوا فى ثورة يونيو من إسقاط نظامها الذى فرضته بمؤامرة شاركت فيها أطراف داخلية وخارجية، لكنهم لم يتمكنوا بعد من القضاء على فلول هذه الجماعات وعلى عصاباتها الارهابية التى لاتزال قادرة على الحركة فى مناخ هذه الأزمة الشاملة التى لانزال نعانى منها بعد ثورتين لم نستطع فيهما أن نواجهها مواجهة شاملة نضع بها أيدينا على أسبابها ونتخلص منها، وهو عمل لا نحتاج فيه إلا لقدر من الشجاعة والقدرة على مواجهة أنفسنا والاعتراف بأننا مسئولون قبل غيرنا عما نعانى منه ونتخبط فيه.
لقد تخلينا عن المبادئ والأفكار التى آمنا بها، وضحينا بالكثير فى سبيلها، وتنكرنا للنظم والمؤسسات التى بنيناها وحققنا بها نهضتنا الحديثة، وعدنا إلى ما كنا عليه قبل قرون. تخلينا عن الدستور الذى انتزعناه من الملك فؤاد واسترجعناه بعد أن صادره رجاله وأوقفوا العمل به. وسكتنا عن الجرائم التى كانت ترتكب مع المعارضين والمخالفين جهارا ونهارا، وتنازلنا عن حقنا فى مراقبة السلطة ومحاسبتها واكتفينا بالتصفيق، واكتفى هو بالوعود التى كان يمطرنا بها وبالانتصارات التى لم تكن تتحقق إلا فى خطبه وإذاعاته وصحفه، ثم نفاجأ بما أسفرت عنه الخطب من هزائم مدوية.
هذا ما يجب أن نعترف به. لأن الاعتراف بالخطأ هو بداية الرجوع للحق. والحق الذى نحتاج للرجوع إليه هو النهضة التى تنكرنا لها وهجرناها قبل أن نكملها. هو الديمقراطية، وتداول السلطة، وعدم الخلط بين شئون الدنيا وشئون الدين، وهو حرية المرأة ومساواتها الكاملة بالرجل، وهو حقوق الانسان والمواطن، حقه فى التفكير والتعبير والاعتقاد والعمل والمشاركة فى اختيار السلطة وتولى المناصب دون أى تمييز.
نعم. نحن نحتاج لأن نكمل ما بدأه الطهطاوي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وطه حسين، والعقاد، وعلى عبدالرازق، وسلامة موسى فى الفكر، وما بدأه الآخرون فى السياسة والاقتصاد والعلم والقانون. نحن لم نضف شيئا لما قدمه هؤلاء، بل لقد بددنا معظم الثروة التى جمعوها لنا ظانين أننا سنضاعفها، وإلا فما الذى بقى من فتوحات إبراهيم بن محمد على ومبادئ سعد زغلول ومكرم عبيد، وشركات طلعت حرب؟
وأنا هنا لا أبكى على الماضى الذى أتحدث عنه وأعلم جيدا أنه لم يكن كاملا. وإنما أبكى على الحاضر الذى لم يكمل الماضى ولم يصحح ماكان فيه من أخطاء، ولم يحافظ كذلك على ما تحقق فيه من إنجازات يتجاهلها بعضهم وينكرون علينا أن نتحدث عن النهضة، لأن النهضة عهد مضى وانقضي، وعلينا فى نظر هؤلاء أن نقصر حديثنا علي الحاضر، كأن الحاضر هو بداية التاريخ، وكأنه لم يكن ثمرة مرة لماض قريب علينا أن ننظر فيه لنرى أسباب التردى الذى وصلنا إليه فنتخلص منها ونستأنف سيرنا فى طريق النهوض من جديد، وهذا هو الموضوع الذى يتجاهله هؤلاء ويخافون من الخوض، فيه لأن الخوض فيه يكشف ما يسعون لإخفائه، ولو كان الثمن هو هذه الأزمة الشاملة التى نعانى منها، ولأن الكلام إذا كان من فضة كما تقول الحكمة الموروثة من عصور الظلام والطغيان فالسكوت من ذهب! ومن الواضح أن هذه الحكمة الموروثة لم تفقد قدرتها على الإقناع كما نرى وكما رأينا طوال العقود الماضية التى ملأ فيها الذهب جيوب الساكتين الذين أصابوا الدولة بما أصيبوا به حين أصبحوا ركنا من أركانها وامتلأت جيوبهم بالدنانير، وتضخمت كافهم وتاؤهم فأصبح السكوت سقوطا!