الأهرام
د.أحمد سيد أحمد
أمريكا وروسيا.. حدود التقارب والصدام
تكتسب العلاقات الأمريكية الروسية خصوصية كبيرة تنبع من موقع ومكانة الدولتين فى النظام الدولى والتفاعلات المتعددة فيما بينهما بما يضع إطارا معقدا لتلك العلاقات يحكم مدى وحدود التقارب أو الصدام بينهما، فالولايات المتحدة وروسيا تقفان على رأس هرم النظام الدولى، ويحتل كل منهما وضعية خاصة فى أجندة وإستراتيجية السياسة الخارجية للدولة الأخرى، حيث اتسمت فترة الحرب الباردة بوجود التنافس بينهما، حيث تزعمت الولايات المتحدة المعسكر الليبرالى الغربى فى مواجهة المعسكر الاشتراكى الشرقى الذى يتزعمه الاتحاد السوفيتى الذى انهار فى بداية التسعينيات من القرن الماضى وورثته روسيا وظلت العلاقات بينهما فى فترة ما بعد الحرب الباردة فى إطار التنافس الإستراتيجى. ويتمثل الإطار الحاكم للعلاقات بينهما فى عدد من الأمور:

أولا: تعتبر موسكو أن الولايات المتحدة خصما إستراتيجيا لها لاستمرارها فى محاولة تطويق وعزل روسيا وتحجيم دورها العالمى، من خلال توسيع حلف الناتو شرقا ليضم دولا عديدة فى أوروبا الشرقية ودول جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، والتى كانت خاضعة لنفوذها ونشر نظام الدرع الصاروخى على حدودها الغربية، ومحاولات ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الاوروبى وحلف الناتو وهو ما اعتبرته روسيا خطا أحمر، ولذلك سارعت بضم شبه جزيرة القرم ودعم المتمردين الانفصاليين فى شرق أوكرانيا مما ترتب عليه فرض الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات عليها، فى المقابل تعتبر الدولة العميقة فى الولايات المتحدة أن روسيا خصم إستراتيجى، وينبغى احتواء دورها فى العديد من مناطق العالم، خاصة مع تصاعد الدور الروسى فى أوكرانيا وفى العديد من أزمات منطقة الشرق الاوسط مثل سوريا وإيران وليبيا وغيرهما.

ثانيا: تجنبت الدولتان الصدام والمواجهة المسلحة المباشرة لما قد يترتب عليه من نتائج وخيمة بسبب امتلاكها السلاح النووى، وانتهجتا إستراتيجية المواجهة غير المباشرة والحرب بالوكالة فى العديد من مناطق العالم عبر دعم الحلفاء والدول فى إطار ما يعرف بالحرب الباردة الجديدة، كما ظهر فى الساحة السورية والساحة الأفغانية عندما دعمت روسيا طالبان لاستنزاف الولايات المتحدة ودعم المتمردين فى أوكرانيا.

ثالثا: ينبع الخلاف الإستراتيجى بينهما فى رؤية كل منهما للنظام الدولى، فروسيا التى نجحت خلال عهد بوتين فى استعادتها عافيتها الاقتصادية، إضافة لقوتها العسكرية الكبيرة, سعت إلى تعديل هيكل النظام الدولى ليكون متعدد القطبية بدلا من نظام القطبية الأحادية الذى ساد بعد الحرب الباردة وتزعمته الولايات المتحدة ورأت فيه روسيا عاملا لعدم الاستقرار العالمى، بينما تعتبر أمريكا أنها مازالت متربعة على النظام الدولى والقادرة على توجيه تفاعلات والتحكم فى أزماته لامتلاكها عناصر القوة الشاملة.

رابعا: تتجاوز العلاقات بين البلدين حدود العامل الشخصى لرؤسائها، فرغم أن ترامب، الذى يندرج من خلفية اقتصادية كرجل أعمال تقوم عقيدته فى السياسة الخارجية على مفهوم الصفقة، ويفتقد إلى الخلفية السياسية، قد أبدى رغبة واضحة خلال حملته الانتخابية فى التقارب مع روسيا، ووصل إلى حد الإعجاب بشخصية بوتين الذكية، إلا أنه قوبل بالدولة العميقة المتمثلة فى المؤسسات الأمريكية مثل وزارة الدفاع والخارجية والاستخبارات وانضم إليهما أيضا الكونجرس الأمريكى بعد فرض عقوبات اقتصادية على روسيا مؤخرا بسبب تدخلها فى الانتخابات الرئاسية لصالح فوز ترامب، وهو ما اعتبرته تلك المؤسسات انتقاصا من الهيبة الأمريكية ومكانتها بما يتوجب اتخاذ إجراءات عقابية ضد روسيا كما فعل أوباما بفرض عقوبات على موسكو وطرد عدد من دبلوماسييها، بأوامر تنفيذية بينما اتسمت العقوبات الأخيرة بأنها صدرت عبر قانون من الكونجرس واشترطت عدم اتخاذ ترامب أية خطوات لرفع العقوبات إلا بعد العودة للكونجرس, هو ما اعتبره ترامب خللا دستوريا وانتقاصا من صلاحياته، كما أن رفض ترامب المستميت لأى تدخل روسى فى الانتخابات هو دفاع عن شرعيته الانتخابية، وبالتالى وضعت المؤسسات الأمريكية محجمات أمام ترامب ضد أى فرص للتقارب والتطبيع مع روسيا باعتبارها خصما إستراتيجيا لامريكا ترتكز عليه سياستها الخارجية وكذلك انتعاش صناعتها العسكرية. ورغم أن روسيا أبدت مرونة كبيرة على أمل أن تتحسن العلاقات فى عهد ترامب، إلا أنه وبعد مرور ستة اشهر وفرض العقوبات الأخيرة من جانب الكونجرس، والتى تضر بشكل كبير بقطاعها الاقتصادى ومشاريعها فى مجال الطاقة ونقل الغاز المسال إلى أوروبا، فقدت أية آمال فى إمكان تحسن تلك العلاقات واضطرت إلى الرد عل العقوبات الأمريكية بطرد عدد كبير من الدبلوماسيين الأمريكيين فى موسكو.

خامسا: بعد انتهاء الإيديولوجيا أصبح الاقتصاد والمصلحة هو الحاكم للعلاقات الدولية وهو ما يفسر الاعتراض الأوروبى على العقوبات الأمريكية ضد روسيا لتأثر أمن الطاقة سلبيا بها، ورغم وجود تباينات كبيرة بين البلدين فى العديد من القضايا لاعتبارات اقتصادية وجيوسياسية إلا أن هناك ببعض المسارات المتقاطعة تدفع للتقارب بينهما مثل محاربة الإرهاب وتنظيم داعش الإرهابى وهو ما بدا فى التفاهمات بينهما فى سوريا، لكن تظل هناك حدود للتقارب بينهما مع الحرص على عدم المواجهة العسكرية المباشرة، ولتظل العلاقة فى إطار اللاتطبيع واللاصدام ويظل ترامب «بطة عرجاء» فى علاقته بروسيا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف