الأهرام
جمال الشاعر
سياسة تسديد الخانات لن تفلح
حكايتان لطيفتان عن البيروقراطية. الأولى حكاية الشنكل فى فيلم أرض النفاق وعقلية الموظف الغبى الفاشل الذى أضاع سنينا طويلة فى ملاحقات قضائية للمقاول الذى سلم مبنى المصلحة ناقص شنكل. وتم دفع أتعاب أربعمائة جنيه للحصول على شنكل قيمته أربعة وأربعين مليما فقط لا غير.

القصة الأخرى هى (إدارة عموم الزير) للدكتور حسين مؤنس والتى تحكى عن زير وضعه الوالى بجوار شجرة كى يشرب منه أبناء السبيل والمارة. وتلقفت البيروقراطية الفاسدة الموضوع وعينت حارسا للزير ثم سقاء. ولما انكسر الزير عملوا لجنة مشتريات لشراء واحد جديد. ثم عينوا موظف حسابات لإدارة المشروع. وبعد ذلك عينوا موظفين متخصصين, واحد فى الفخار وواحد فى الحديد من أجل حامل الزير. وواحد فى الصاج لأجل الكوز وواحد فى الخشب لغطا الزير. وفى النهاية شيدوا مبنى ضخما يعج بالمديرين والموظفين. وعندما زارهم الوالى مرة أخرى أصابه الذهول عندما سأل عن الزير شخصيا فلم يجده. فأصدر فرمانا أن يتحمل الوزير كل المصاريف والأجور لهذه المهزلة من جيبه الخاص.

عقلية الزير والشنكل مازالت فى كل المصالح الإدارية يضاف إليها عقلية «الميديوكر». وهو أس المشاكل وهو الشخص متوسط الذكاء والموهبة. يعنى بالبلدى النص نص. وهو الذى يؤدى بنا إلى أن نكون (شبه دولة). وهو موجود فى كل المجالات والمناصب. لماذا لم تصبح مصر مثل الإمارات الأولى على العالم فى تقرير الشفافية العالمي. دبى أنشأت جهازا إداريا حديثا يعتمد على التكنولوجيا وسرعة الأداء وتسهيل الإجراءات والشباك الواحد للأوراق. فانتعشت أحوالها الاقتصادية وأصبحت أرض الأحلام حتى لبعض الأمريكيين ممن قابلتهم فى مناسبات عديدة، ما هى أسباب نجاح الإمارات فى زمن قياسى وهو سبع سنوات؟

أذكر أننى جلست بجوار وزير إماراتى بالصدفة فى رحلة طيران، وسألته، أنا مندهش كيف استطاعت الإمارات تحقيق هذه المعجزة الحداثية مع أنها ليس لديها ما لدينا من علماء ومهندسين وخبراء وعباقرة ؟ نزلت إجابته على كالصاعقة. نجحنا لأنه ليس لدينا كل هذا الذى عندكم ؟ عندكم حمولة زائدة وميراث من البيروقراطية خطير، أما نحن فقد بدأنا من الزيرو فكان التخطيط الحر دونما ضغوط وتعقيدات، رحت أراجع تجارب العالم، الصين عرفت أنها لن تحدث تقدما ونهضة إلا بالقضاء على مثل هذه العاهات الإدارية إلا بالاستعانة بقيادات متميزة فى كل مستويات الجهاز الإدارى.

حددت المهام والمهارات المطلوبة والفئة العمرية. (مواصفات كل وظيفة). واستغنت عن أربعين فى المائة من الموظفين أعادت تأهيلهم وتوظيفهم فى مجالات مناسبة، وضعت معيار الكفاءة ولا شئ غيرها. وأمريكا أيضا قامت بثورتين إداريتين من خمسينيات القرن الماضى وحتى الآن شكلت لجنة الـ (273) توصية. وأهم ما جاء فيها هو تعزيز مبدأ الجدارة فى اختيار القيادات واعتماد المركزية فى الاستراتيجيات والخطط واللامركزية فى التنفيذ وإذكاء روح التنافسية، ثم الرقابة والتقييم المستمر للأداء. ثم أحدثت ثورة إدارية ثانية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. شكلت لها لجنة (هوفر) التى قامت بحركة تحديث جبارة، وبهذا امتلكت أمريكا أقوى جهاز إدارى فى العالم.

توماس فريدمان يقول، إن أهم مظاهر قوة أمريكا هو مؤسساتها الإدارية. أما اليابان فرفعت شعار الكمبيوتر هو الحل. وقامت بـ (110) تدابير إصلاحية خلال أربعين سنة وقامت بأكبر عملية إحلال وتبديل للموظفين بين الوزارات والهيئات. كل التجارب السابقة تفجر عندنا المزيد من الأسئلة. هل نستطيع القيام بثورة إدارية ؟ كيف ؟ ومتى تنتهى مرحلة الأيادى المرتعشة؟ ولماذا لا تصدر تشريعات جديدة أو تعديلات تشريعية تحفز على اتخاذ القرارات دون خوف، خاصة بعد الملاحقات القضائية للبعض بعد الثورة؟ ولماذا لا تضخ الدماء الجديدة فى شرايين الأجهزة ؟ وماذا لو نجحنا فى صناعة الجيل الثانى والثالث لتحمل المسئولية مستقبلا ؟ وأخيرا من يملك الشجاعة ؟ ومن يستطيع أن يعلق الجرس فى رقبة الأسد؟ من يستطيع أن يعلق جرس الإصلاح الإدارى فى رقبة (عبد الروتين) الديناصور المصرى. قاتل الطموحات ومحترف تسديد الخانات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف